لم يكن حادث وفاة ثماني عشرة فتاة من زهرات هذا الوطن — وهن في طريقهن إلى العمل في جني العنب — مجرد حادث مروري مؤلم، بل كان تجسيدًا صارخًا لواقع تشريعي يفتقد إلى العدالة الاجتماعية التي أرساها الدستور، ويكشف عن مدى الانفصام بين المبادئ الدستورية التي تُعلي من قيمة حق التأمين الاجتماعي، وبين القواعد التشريعية التي قيدت هذا الحق على نحو يخالف صريح النص الدستوري وروحه.
الفتيات اللاتي لم تمنعهن ظروف الحياة القاسية من الجمع بين طلب العلم والعمل الشريف خرجن من منازل أسرهن، تحمل كل واحدة منهن حلمًا بمستقبل كريم لأسرتهن ولنفسها، لكن القدر، متضافرًا مع يد القصور التشريعي، لم يمنحهن الفرصة ليكملن الحلم، فكان الحادث ليس فقط حادث طريق، بل حادث قصور تشريعي فج.
الحماية الدستورية للتأمين الاجتماعي .. التزام مُقدس لا يقبل التأويل أو الانتقاص لقد قرر الدستور المصري في المادة (17) قاعدة دستورية قطعية لا تحتمل الاجتهاد أو التأويل، بأن التأمين الاجتماعي حق لكل مواطن، وبأن الدولة تلتزم بتوفيره، وتوسيع مظلته للفئات التي لا تتمتع به، بما في ذلك العمالة غير المنتظمة،
ولم يكتف الدستور بذلك، بل نص في المادة (93) على أن الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، التي صدّقت عليها مصر، تكون لها قوة القانون، وألزم الدولة باحترامها وتنفيذها.
كما أن ديباجة الدستور ذاته أكدت أن النص الدستوري يكتب بروح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يُعد وثيقة مرجعية له، بما يؤكد أن الحماية الاجتماعية ليست منحة تقدمها الدولة، بل هي التزام دستوري واجب النفاذ، وحق إنساني أصيل.
انحراف السلطة التشريعية عن الإلزام الدستوري … مخالفة دستورية مكتملة الأركان.
في إطار ما سعيت لتناوله في أطروحتي للدكتوراه —تناولت مسألة الالتزامات المتقابلة في الحق في التأمين الاجتماعي، وكيف أن المشرّع الدستوري ألزم الدولة بمد مظلة التأمين لتشمل الجميع دون تمييز.
غير أن المشرّع العادي، ممثلًا في قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات رقم 148 لسنة 2019، انحرف عن هذا الالتزام الدستوري انحرافًا لا يمكن وصفه إلا بكونه مخالفة دستورية صريحة، تتجلى في موضعين خطيرين:
الموضع الأول: حرمان الحدث العامل من مظلة التأمين الاجتماعي.. هو إخلال دستوري وإنساني مزدوج.
رغم أن قانون العمل يسمح بعمل الحدث من سن الخامسة عشرة، إلا أن قانون التأمينات الاجتماعية استبعد الحدث الذي لم يبلغ الثامنة عشرة من مظلته.
هذا الاستبعاد، في تقديري، ليس فقط مخالفة للمادة (17) من الدستور، بل أيضًا خروج سافر على نص المادة (93) التي تُكسب اتفاقية حقوق الطفل قوة القانون، تلك الاتفاقية التي تنص صراحة في مادتها (26) على : “تعترف الدول الأطراف لكل طفل بالحق في الانتفاع من الضمان الاجتماعي، بما في ذلك التأمين الاجتماعي، وتتخذ التدابير اللازمة لتحقيق الإعمال الكامل لهذا الحق، وفقًا لقانونها الوطني.”
والأدهى أن هذا النص التشريعي يجعل من السن، الذي يفترض أن يكون معيارًا للحماية والرعاية، حاجزًا قانونيًا يحرم الفئات الأضعف من أبسط حقوقهم، في الوقت الذي لا يجد الدستور أي مبرر لتمييز سلبي قائم على السن، طالما ثبت قيام الشخص بعمل.
الموضع الثاني : ربط الحماية التأمينية للعمالة غير المنتظمة بالاشتراك الفعلي .. إخلال بمسؤولية صاحب العمل والتزام الدولة .
لا خلاف على أن مبدأ التوازن المالي لصناديق التأمين الاجتماعي هو هدف مشروع وضروري لضمان استدامة تلك الصناديق، إلا أن تحقيق هذا الهدف لا يجوز أن يكون على حساب الالتزام الدستوري الأصيل بكفالة الحق في التأمين الاجتماعي .
القانون عندما ربط حماية العمالة غير المنتظمة بضرورة الاشتراك الفعلي أي أن يتقدم العامل نفسه بطلب التسجيل، ويتحمل عبء دفع الاشتراكات قد ألقى بعبء الحماية على العامل نفسه، متناسيًا أن العامل الذي يعمل في ظروف اقتصادية هشة بأجر يومي هزيل، هو الأبعد عن القدرة على تحمل هذا العبء، والأكثر احتياجًا لمظلة الحماية الاجتماعية.
الحقيقة التي لا تحتمل جدالًا هي أن مسؤولية التأمين لا تقع على العامل، بل على من ينتفع بعمله سواء كان صاحب عمل، أو جهة تشغيل، أو مقاول وهذا ليس فقط التزامًا قانونيًا، بل واجب دستوري وأخلاقي يستند إلى مبدأ التضامن الاجتماعي المنصوص عليه في المادة (8) من الدستور، والتي تنص على أن: ” يقوم المجتمع على التضامن الاجتماعي.”
إن تحميل العامل نفسه عبء الحماية يتعارض مع جوهر فلسفة التأمين الاجتماعي التي تقوم على توزيع الأخطار وتحقيق التضامن بين أفراد المجتمع، ويُعد إخلالًا صريحًا بالتزام الدولة نحو الفئات الأكثر ضعفًا واحتياجًا.
التكييف الدستوري والقانوني… انحراف تشريعي يوجب الرقابة الدستورية
هذا الوضع التشريعي، الذي يُقصي الحدث العامل من مظلة التأمين، ويُحمّل العامل غير المنتظم مسؤولية الحماية عن نفسه، لا يمكن تكييفه إلا باعتباره صورة من صور الانحراف التشريعي الجسيم عن نصوص الدستور ومقاصده.
وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام الطعن بعدم دستورية هذه النصوص، لأن استمرارها يعني أن الحماية الاجتماعية ليست سوى شعار فارغ من المضمون، وأن النصوص الدستورية لا تعدو أن تكون كلمات بلا أثر.
فقد التأمين الاجتماعي لغايته …. البعد الإنساني
هؤلاء الفتيات لم يفقدن حياتهن بسبب القصور التشريعي، فالموت قضاء وقدر، لكن القصور التشريعي أفقد التأمين الاجتماعي غايته الجوهرية، وهي توفير الحماية لأسرهن من آباء وأمهات وأخوات صغار، فالتأمين الاجتماعي لم يُشرّع لدرء الأقدار، بل لتحقيق مقاصد عظيمة في التخفيف من آثار المصائب، وافجاع الموت، مع صون كرامة الإنسان، وتحقيق التكافل الاجتماعي، مصداقًا لقوله تعالى: “أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” )قريش: 4( .ومن ثم، فإن إخفاق التشريع في مد مظلة الحماية لتلك الأسر ليس مجرد تقصير قانوني، بل انتهاك لمبدأ التضامن الاجتماعي، وإخلال بالالتزام الدستوري.