في عالم تُدار فيه الصراعات ليس فقط بقوة السلاح، بل بشبكات النفوذ، والاقتصاد، والتحالفات الناعمة، تبرز حقيقة قلّما تُقال بوضوح: أخطر الخصوم هم أولئك الذين لا يملكون شيئًا ليخسروه.
لقد درجت الدول الكبرى على إنتاج صورة نمطية للعدو؛ صورة محسوبة، مرسومة، تُقدَّم للشعوب في قوالب تثير الخوف، لكنها لا تدفع إلى الفعل الكامل. عدو بشع، لكنه لا يملك أدوات الهجوم الفعّالة. عدو مقيت، لكنه مرئي، يمكن رصده وتوجيه المشاعر ضده. هذا “العدو المعدّل وراثيًا” ضروري من أجل استمرار ميزان الهيمنة: ميزان يقوم على شعور داخلي بالخطر، دون التورط في فوضى حقيقية.
تكذلك درك الدول المهيمنة خطورة منح الشعوب أدوات المعرفة المجردة، لذا فهي تصدّر التكنولوجيا والرفاهية بحسابات دقيقة. تُطلق تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتُغدق المنتجات الرقمية، لكنها تظل ممسوكة بخيوط المركز: مركز التحكم، مركز القرار، مركز القدرة على الإطفاء أو التجميد. ولا عجب أن كل شيء متصل وتحت السيطرة بواسطة الخادم المركزي.
هكذا تصبح التكنولوجيا نفسها أداة للهيمنة، حيث يُمنح الطرف الأضعف القدرة على الاستخدام لا على التطوير، على الاستهلاك لا على القرار، على الانبهار لا على التحكم.
ربما كان هذا هو سر إصرار قادة كالقذافي وفيصل على البساطة الظاهرة
فالزعيم الليبي معمر القذافي كان يشترط نصب خيمته التقليدية في كل مكان، يزوره حتى في قلب باريس وروما. في المقابل، حين زار الملك فيصل باريس، ورأى صور النساء شبه العاريات على الجدران، أمر بتغطيتها أو إزالتها خلال مروره، فاستجابت فرنسا.
هذه المفارقة، التي قد تبدو سطحية في ظاهرها، تُعبّر عن صراع أعمق: صراع الصورة. القذافي أراد أن يفرض رمزيته الصحراوية، خيمته التي تمثل التمرد والخصوصية، في قلب منظومة عربية تخشى الخروج عن التنميط. أما فيصل، فقد امتلك من الهيبة السياسية والمكانة الدولية ما جعله يفرض احترام رمزيته الثقافية في عاصمة (النور) نفسها.
المسألة ليست فقط خيمة أو صورة، بل من يملك فرض رموزه على الآخر دون أن يُتهم بالجنون أو التهريج.
حين تنعدم الخسارة… يولد الجنون
في خضم هذه المعادلة، أؤكد – من واقع ما أراه وأحلله – أن أخطر ما يمكن أن تفعله في صراعك، أن تدفع عدوك إلى نقطة الصفر: أن تسلبه كل شيء — هويته، كرامته، مستقبله، أرضه، أمله — فتجعله يتحول إلى كائن بلا تردد، بلا منطق، بلا ما يخسره.
هنا، لا يعود العدو يخشى القتل، بل يتوق إليه. لا يعود يحلم بالنصر، بل بالانفجار. وهكذا يصبح أشد خطورة من أي وقت مضى.
وهنا أقول ما أعتبره خلاصة خبرة عقلية وإنسانية:
“لا تدفع خصمك إلى حافة العدم، فحيث لا شيء يُخشى فقدانه، يولد أشد أنواع المقاومة شراسة.”
تلك مقولة أؤكدها بقناعة شخصية، أضعها بين يدي من يقرأ المشهد بعين الحكمة لا بعين الانتشاء. فالهزيمة الكاملة قد تكون بذرة الانفجار، والكرامة المهدورة قد تعود بثوب الجنون. والحكيم، وحده، من يعرف أين يضع قدمه على طرف الجرح.