آراء

يوسف عبداللطيف يكتب: الكلمة اما سلاحًا للبناء او أداةً للهدم

في زمنٍ تُباع فيه الأصوات، وتُشترى فيه الضمائر، تبقى الكلمة أمانة، لا يملكها من يملك لسانًا فقط، بل من يحمل قلبًا حيًّا وعقلًا نقيًّا. الكلمة ليست زينة تُقال في المجالس، ولا رصيفًا يُعبّد لمسيرة المصالح، بل هي عهدٌ أمام الله، ومسؤولية في حقّ الناس، وجهاد في سبيل الحقّ.

الكلمة أمانة، هكذا كانت منذ أن قالها الله للملائكة: “إني جاعلٌ في الأرض خليفة”، فكانت أول كلمةٍ في رحلة الإنسان، وأول عهد بين السماء والأرض. وعندما خاطب الله رسله وأنبياءه، لم يُنزل عليهم ذهبًا أو سيوفًا، بل أنزل عليهم “كلمة”، وجعلها نورًا وهداية، وترك لهم البلاغ المبين. من هنا تبدأ القصة: الكلمة ليست صوتًا، بل رسالة، والكلمة ليست حبرًا، بل دمٌ يجري في شرايين الأمانة.

الكلمة ليست صوتًا عابرًا، ولا رأيًا يُرمى في مهب الريح. الكلمة خلق. الكلمة روح. الكلمة حياة… أو موت. منذ أن نزل الوحي على جبل النور، و”اقرأ” كانت أول الأمر، ونحن أمة تُحاسب على ما تنطق به أفواهها، وتُكرم بما تكتبه أقلامها، وتُلعن إن باع أحدهم ضميره في جملة. هذه ليست مبالغة، بل الحقيقة كما أؤمن بها. الكلمة ليست رفاهية، الكلمة موقف. كل من حمل القلم خائن حتى يثبت العكس، وميزانه بين يديه: أيميل إلى الحق أم يعبد رغباته؟ هل هو شاهد على زمنه أم شريك في تضليله؟

أنا لا أكتب لأبني شهرة، ولا لأرتدي ثوب المثقف المترف. أنا من أولئك الذين يتقنون فن الصمت، لكن حين يتكلمون… تُصغى الفكرة قبل الأذن. أعرف أن القلم أشد فتكًا من الرصاص، وأشد أثرًا من المدافع، لأن الرصاص ينتهي بطلقة… أما الكلمة، فإن زرعتها صادقة، بقيت تحيا بين الناس وإن غاب صاحبها.

الكلمة دين. والدين ليس مجرد طقوس تُؤدى، بل سلوك وأمانة. كيف لمن يؤمن بالله أن يكذب بقلمه؟ أو يخدع الناس بحروفه؟ كيف لإنسان أن يُزين الباطل، ويُقبح الحق، ثم ينام مرتاح الضمير؟ أين يذهب من كتب تقريرًا كاذبًا أو صياغة مضللة حين يُسأل أمام الله؟ إن كل كاتب، كل إعلامي، كل مسؤول عن تشكيل وعي الناس، هو شاهد على قومه، ومسؤول عن كل قارئ خدعه، أو مستمع أضله، أو شعب سلبه وعيه.

في التاريخ، كانت الكلمة بداية الثورات، ومصدر الحضارات، وشرارة التغيير. لم يكن الفاتحون أعظم بما امتلكوه من جيوش، بل بما نطقوا من مبادئ. لم يَخَف الطغاة من السيوف كما خافوا من كلمات تخرج من أفواه الأحرار. من قال كلمة حقّ أمام سلطان جائر، لم يكن يهوى الموت، بل كان يعرف أن الصمت خيانة، وأن الخوف من الكلمة أكبر من الخوف من السيف.

أما في الدين، فحدِّث ولا حرج. الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قالها صريحة: “وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟”. أيُّ وزنٍ لهذه الأمانة، حين تصبح الكلمة سبب نجاةٍ أو هلاك؟! والكلمة في ميزان الشريعة، كالصلاة والزكاة، تُسأل عنها يوم القيامة، لأنها ليست عابرة… هي شهادة، إما لك أو عليك.

وفي ميدان المهنة، وخاصة لمن اعتلى منبرًا أو حمل قلمًا أو وقف أمام ميكروفون، فإن الكلمة تتحول من مجرد مسؤولية إلى شرف. الإعلامي، الكاتب، الخطيب، المعلّم… كلهم سيتحولون إلى شهود في هذا الزمان، إما أن يشهدوا للحق، أو يصمتوا عن الزيف. فإن تكلموا بصدق، كانوا أئمةً يُهتدى بهم، وإن خانوا الكلمة، صاروا شهود زور على ضمير الأمة.

وليس المقصود بالخيانة أن تقول الكذب فقط، بل أن تعرف الحق وتسكت عنه، أن ترى الظلم وتُزينه بالكلمات، أن تُجمّل القبيح وتُخفي الجميل. الكلمة التي لا تُقال في وقتها، كالسيف الذي يُترك في غمده يوم المعركة. وهذا الصمت الجبان، خيانة لا تقلّ عن الكلام المضلل.

في أوطاننا، حين نكتب، نكتب كأننا نحفر بقلوبنا في صخر الألم. نكتب لا لنسلّي، بل لننقذ. نكتب لأن الكلمة قد تكون جسر نجاة لوطنٍ يعاني، أو صوت عزاء لأمٍّ تبكي، أو شمعة في عتمة الضلال. الكلمة التي تُكتب بوحيٍ من الضمير، لا تُنسى، ولا تموت. تبقى، تتحرك، تُلهم، وتُقاوم.

الوطن لا يُبنى بالحناجر العالية فقط، بل بالكلمات النقية. لا يُحمى بالشعارات، بل بالمواقف الصادقة. عندما تُكتب الكلمة بعقلٍ يفهم، وقلبٍ يخاف على الوطن، تصبح أقوى من بندقية، وأصدق من نشرة أخبار. لأن الكلمة الحقّ، حين تخرج، لا تحتاج إلى دليل، فالنور لا يُشرح، بل يُبصر.

وللكلمة ثمن، والثمن ليس دائمًا مالًا أو شهرة، بل أحيانًا يكون عزلة، أو محاربة، أو تجاهل. لكن الكاتب الحقيقي لا يبحث عن التصفيق، بل عن التأثير. لا يُرضي الجميع، بل يُرضي ضميره. ومن يعرف قيمة الكلمة، لا يفرّط فيها لأجل منصب، ولا يُقايضها على حساب الحقيقة.

ولذلك، حين نقول إن الكلمة أمانة، فنحن لا نُطلق شعارًا، بل نصف واقعًا ثقيلًا. أمانة تُحمّل صاحبها همّ الناس، وآهات المظلومين، وطموحات البسطاء. الكلمة لا تُكتب فقط بالحروف، بل بالتجربة، بالإحساس، بالوعي. والكاتب الذي يعرف ذلك، لا ينام مرتاحًا بعد مقال، بل ينام على قلق… هل بلغت؟ هل صدقت؟ هل خنت الحرف؟

هكذا نفهم الكلمة. ليست أداةً للزينة، بل سلاحًا للبناء. ليست مجالًا للاستعراض، بل ساحةٌ للفداء. ومن لم يكن أهلاً لها، فليصمت. لأن الكلمة إذا لم تكن نورًا، كانت نارًا.

أنا لا أساير الموج، ولا أرتدي ثياب المزاج العام. لست من الذين ينحنون كلما هبّ هواء. أكتب كأن كل حرف معركة، وأتخذ من الكلمة سيفًا أقطع به الزيف، ومن القلم رمحًا أطعن به النفاق. في زمن امتلأت فيه المنابر بالثرثرة، والصفحات بالأكاذيب، هناك حاجة إلى من يكتب بضمير لا يتبدل، بعقل لا يُستأجر، وبقلب لا يخون.

وأقولها بلا وجل: من يُحسن الكلمة، يَخدم الوطن. ومن يُفسدها، يهدم كل ما بناه الشرفاء. الكلمة ليست مجرد رأي… الكلمة وطنٌ في حرف.

زر الذهاب إلى الأعلى