آراء

م.خالد محمود خالد يكتب: سد النهضة بين الفيضان والمناخ والتاريخ.. دروس للمستقبل

لم يعد سد النهضة مجرد مشروع مائي ضخم على النيل الأزرق، بل أصبح عاملًا مغيرًا للبيئة والمناخ والسياسة في آن واحد. ومع فيضان هذا العام الذي لم يستوعبه الخزان بالكامل، يتصاعد التساؤل: إذا كان هذا حال موسم واحد، فكيف سيكون الوضع إذا تكررت مواسم أكثر غزارة في السنوات القادمة؟

مناخ جديد يتشكل حول البحيرة

من الطبيعي أن يغيّر أي خزان مائي ضخم المناخ المحلي المحيط به. بحيرة سد النهضة – بسعتها الهائلة – أفرزت بالفعل ملامح مناخية جديدة: رطوبة مرتفعة، ضباب متزايد، وفرص أكبر لهطول أمطار محلية. لكن هذا التأثير يظل محدودًا في نطاق عشرات الكيلومترات، ولا يمتد ليغيّر طبيعة الفيضان الذي يعتمد على أنظمة مناخية كبرى مثل الرياح الموسمية

ضغط جيولوجي لا يُستهان به

الجانب الجيولوجي لا يقل أهمية. وزن المياه الهائل يضغط على القشرة الأرضية في منطقة الأخدود الإفريقي العظيم، ما قد يفعّل صدوعًا قديمة أو يرفع احتمالات النشاط الزلزالي المستحث. كما أن تشبع ضفاف البحيرة بالمياه يجعل الانهيارات الأرضية محتملة، بينما يظل الطمي التحدي الأكبر الذي يهدد كفاءة السد وعمره الافتراضي.

مواسم قادمة أكثر تعقيدًا

إذا كان الخزان لم يستوعب فيضان هذا العام، فإن تكرار مواسم مطيرة متتالية قد يفرض واقعًا أكثر خطورة. التصريف المفاجئ لكميات ضخمة من المياه سيجعل السودان في مواجهة مباشرة مع موجات فيضان غير محسوبة، بينما تجد مصر نفسها مضطرة لإعادة صياغة سياساتها التقليدية لإدارة النهر.

السدة الشتوية بين الماضي والمستقبل

في مصر، اعتادت وزارة الري أن تعتمد على السدة الشتوية في يناير من كل عام لتجفيف الترع وإجراء الصيانة. لكن مع متغيرات سد النهضة، قد لا يكون هذا النظام صالحًا كما كان. التغير في مواعيد ومدة السدة أصبح احتمالًا قائمًا، وربما يلزم وضع خطط أكثر مرونة للتعامل مع فيضانات مفاجئة أو جفاف طارئ.

إن أي اضطراب في تدفقات النيل الأزرق ينعكس على بحيرة ناصر، التي تمثل خزان مصر الاستراتيجي. عدم انتظام المناسيب قد يؤثر سلبًا على دورات تكاثر الأسماك وعلى وفرة الغذاء الطبيعي، بما يهدد المخزون السمكي. أما التماسيح، فهي بدورها معرضة لتغير بيئي، إذ يمكن أن تدفعها التغيرات المفاجئة في مستوى البحيرة إلى الهجرة أو تغيير أنماط التكاثر، وهو ما يخل بالتوازن البيئي.

وهناك دروس من تاريخ السدود اثرت على الطبيعة

فالتجارب العالمية تثبت أن السدود الضخمة لا تمر دون أثر. فالسد العالي في مصر غيّر مناخ النوبة، ورفع الرطوبة، وأدى إلى ظهور أمطار خفيفة لم تكن مألوفة من قبل. وفي الصين، أحدث سد “الممرات الثلاثة” تغييرات بيئية كبيرة، شملت زلازل مستحثة وانهيارات أرضية على ضفافه. وفي تركيا، تسببت سلسلة سدود مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP) في إعادة تشكيل أنماط الزراعة والمناخ المحلي. هذه الأمثلة توضح أن سد النهضة ليس استثناءً، بل امتداد لقاعدة ثابتة: السدود الضخمة تغيّر معادلات الطبيعة.

سد النهضة إذن ليس مشروعًا لتوليد الكهرباء فقط، بل هو قوة جديدة تفرض واقعًا طبيعيًا وسياسيًا وجيولوجيًا مختلفًا. الفيضان القادم قد يكون أشد، والمناخ الإقليمي يزداد تقلبًا، والدروس التاريخية تنبهنا إلى أن الآثار طويلة المدى لا تقل خطورة عن الآثار الفورية.

التخطيط للمستقبل يتطلب رؤية شاملة تُعيد النظر في نظم إدارة المياه، وتربط بين السدة الشتوية والفيضانات الطارئة، وبين الأمن المائي وحماية البيئة.

إن مواجهة هذا التحدي ليست اختيارًا، بل ضرورة تفرضها الجغرافيا والتاريخ والمناخ معًا.

م.خالد محمود خالد يكتب: سد النهضة بين الفيضان والمناخ والتاريخ.. دروس للمستقبل

زر الذهاب إلى الأعلى