آراء

م. خالد محمود خالد يكتب: أسرار البحر

منذ أن عرف الإنسان الزراعة، اصبح هاجسه الأكبر هو المطر. غيابه يعني الجفاف والقحط، وحضوره في غير موعده قد يعني الفيضانات والطوفان. وفي تراثنا المصري القديم والحديث ظل الحديث عن “السنوات العجاف” حاضرًا؛ سبع سنوات يقود فيها النيل شحيحًا، فيُجبر الناس على الادخار والتدبير.

اليوم، ومع تقدم العلم، نعرف أن تلك الدورات ليست مصادفات عابرة، وإنما انعكاس لظاهرة كبرى تحرك مناخ الكوكب كله: النينيو واللانينيا.

ما هي النينيو واللانينيا؟

النينيو: هي حالة تحدث حين ترتفع حرارة مياه سطح المحيط الهادئ الاستوائي إلى أعلى من المتوسط المتوقع. هذا التسخين يُحدث اختلالًا في حركة الرياح وتحركات الهواء الرأسي، مما قد يؤدي إلى أمطار غزيرة في مناطق، وجفاف في مناطق أخرى.

اللانينيا: هي الحالة المعاكسة، حين تنخفض حرارة السطح في المحيط الاستوائي إلى أقل من المتوسط. تؤدي هذه البرودة إلى تأثيرات مناخية مغايرة، غالبًا تدفع بعض المناطق إلى الجفاف، بينما تشهد مناطق أخرى زيادة في الأمطار أو نشاطات جوية أقوى.
وبإختصار.

النينيو ببساطة هو ارتفاع غير عادي في حرارة سطح المحيط الهادئ الاستوائي. هذه الدرجات القليلة من الدفء كفيلة بقلب ميزان المطر والرياح حول العالم. فنجد أن أمطارًا غزيرة تُغرق سواحل أمريكا الجنوبية، بينما يتعرض القرن الأفريقي وأجزاء من أستراليا لسنوات جفاف قاسية. على النقيض، تأتي “اللانينيا” حين تبرد مياه المحيط الهادى ، فتعكس الخريطة: جفاف حيث كان المطر، وسيول حيث كان الجفاف.
ما بين هاتين الظاهرتين يوجد الطور المحايد (ENSO-Neutral)، وهو عندما لا تكون الظروف مائلة بقوة إلى الحالتين، وتكون درجات حرارة المحيط والتوزيع الجوي أقرب إلى المتوسط.

اللافت أن هذه الدورة – التي يطلق عليها العلماء اسم ENSO – تتكرر كل سنتين إلى سبع سنوات، لكنها لا تسير على نمط ثابت؛ فقد تطول أكثر من ثلاث سنوات متواصلة كما حدث في لانينيا الأخيرة (2020 – 2023)،

ولعل الأمثلة التاريخية تُبين ذلك . ففي ثمانينيات القرن الماضي، ضربت المجاعات إثيوبيا والقرن الأفريقي بسبب تزامنها مع نينيو قوي جفف السماء. بينما، في الوقت نفسه تقريبًا، غرقت بيرو والإكوادور في فيضانات مدمرة. مشهد واحد يُلخص المفارقة: صحراء متشققة في جانب من العالم، وبيوت مغمورة بالماء في الجانب الآخر، وكلاهما ضحية موجة دفء غير مألوفة عبر آلاف الكيلو مترات من المحيط.

أما اليوم، فنحن نقف عند مرحلة نهاية نينيو معتدل بدأ يتراجع تدريجيًا بعد سنوات . أي أننا خرجنا من دورة الجفاف الطويل نسبياً، ونتجه إلى فترة قد تحمل تقلبات في المطر، بعضها فوق المعدل في مناطق معينة، وبعضها أقل من الطبيعي في مناطق أخرى.

السؤال هنا: ماذا تعني هذه الدورة لنا في مصر؟ الحقيقة أن مصر لا تقع مباشرة تحت تأثير النينيو أو اللانينيا، لكنها تتأثر بشكل غير مباشر عبر ما يحدث في منابع النيل والقرن الأفريقي. فإذا جفت الأمطار هناك، فإن “السنوات العجاف” تقترب منا ولو بعد حين. والعكس صحيح: إذا هطلت الأمطار بغزارة في الهضبة الإثيوبية، نواجه فيضانات وتهديدات أخرى.

العبرة إذن أن هذه الظواهر ليست مجرد تقلبات في المحيط البعيد، بل هي “الترجمان العلمي” لحكايات الأجداد عن الخصوبة والقحط. وإذا كان يوسف عليه السلام قد واجه سنوات الجفاف بالتخزين الحكيم، بوحى من الله ، فإننا اليوم نملك أداة إضافية: العلم و رصد هذه الدورات والتخطيط المائي والزراعي على أساسها فيكون هو الفارق بين أن نتلقى الضربة بلا استعداد، أو أن نحول الأزمة إلى فرصة.

اليوم، ومع وجود سد النهضة وما يثيره من تحديات، يصبح فهم هذه الظواهر المناخية ليس رفاهية علمية، بل ضرورة استراتيجية. فالتقلبات بين النينيو واللانينيا قد تعني سنوات فيضان صعب السيطرة عليه، أو سنوات شح تحتاج إلى إدارة رشيدة لكل قطرة ماء. وإذا كان أجدادنا قد تركوا لنا حكمة التخزين في مواجهة “السنوات العجاف”، فإننا اليوم مدعوون لتوظيف العلم في التخطيط المائي والزراعي، حتى نضمن أن يبقى النيل، مهما تقلّب المناخ، مصدر حياة لا مصدر تهديد.

م. خالد محمود خالد يكتب: أسرار البحر

زر الذهاب إلى الأعلى