”
بقلم: خالد محمود خالد
لم يكن أكثر المتابعين يتوقع أن درسًا في المنطق الأرسطي سيثير كل هذا الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن مقطع الفيديو الذي ظهرت فيه معلمة تشرح لطلابها مربع أرسطو المنطقي مستخدمةً المثال: «كل الرجال أندال»، فتحوّل قاعة الدرس إلى منبر للنقاش المجتمعي حول أثر الكلمة التربوية، وحدود الدعابة في التعليم، ومدى خطورة ما يُغرس في العقول البريئة من أفكارٍ دون وعي.
المنطق بريء من التعميم
من المعروف أن مربع أرسطو هو أحد أعمدة التفكير المنطقي، يقوم على أربعة أنواع من القضايا:
1. كلية موجبة مثل: كل الفواكه نباتات .
2. كلية سالبة مثل: لا إنسان خالد.
3. جزئية موجبة مثل: بعض الناس كرماء.
4. جزئية سالبة مثل: بعض الناس ليسوا صادقين.
وقد وضع أرسطو هذه القوالب ليُدرّب العقل على التمييز بين العموم والخصوص، وعلى بناء الأحكام بدقة وتوازن، لا لإطلاق التهم على فئات بشرية كاملة. فالمنطق في جوهره أداةٌ لتحرير الفكر من العاطفة، لا لتغذيته بالأحكام الجاهزة.
لكن حين تتحول هذه القوالب إلى أمثلة جارحة من قبيل “كل الرجال أندال” أو “كل النساء خادعات”، فإننا نكون قد استبدلنا المنطق بالتحيّز، وفتحنا الباب أمام اللاوعي ليتلقّى الفكرة كما لو كانت حقيقة مطلقة.
اللاوعي لا يفرّق بين المثال والواقع
العقل الواعي يدرك أن ما قالته المعلمة مثال تعليمي، لكنه لا يعيش وحده داخل الإنسان.
هناك عقلٌ آخر أكثر عمقًا وأقل نقدًا هو العقل الباطن، أو اللاوعي، الذي يسجّل ما يسمعه كما هو دون تحليل. وعندما يسمع الطفل جملةً بهذه الصيغة القطعية، فإنها تترسّخ في داخله كصورةٍ عامةٍ عن الرجال، حتى لو لم يكن يقصد المعلم ذلك مطلقًا.
ومع مرور الوقت وتكرار مثل هذه العبارات، ينشأ لدى بعض الطلاب ميلٌ غير واعٍ لتصديق التعميمات وتكوين صور نمطية عن الآخرين — سواء كانوا رجالًا أو نساءً أو جماعات أو مهنًا بعينها. وهذه بداية الانحراف عن التفكير العلمي الذي يقوم على الملاحظة والتحقق لا على الانطباع والتهكم.
كلمة المعلم بذرة في أرض الوعي
المعلم لا يقدّم معلومات فقط، بل يشكّل وجدانًا ويغرس منظومة قيم.
وكل كلمة يقولها داخل الفصل تخرج ومعها سلطة المكان والوظيفة، فتتحول إلى حقيقةٍ في ذهن الطالب الصغير الذي لم يتعلم بعد كيف يزن الكلام بمعيار النقد العقلي.
لقد نبه الفلاسفة والمفكرون قديمًا إلى أن اللغة تصنع الفكر، وأن الكلمة ليست وسيلة تعبير فحسب، بل أداة تشكيل للوعي الجمعي. وفي ميدان التعليم، تصبح الكلمة مسؤولية مضاعفة، لأنها لا تخاطب عقولًا مكتملة بل عقولًا في طور التكوين.
بين الدعابة والمهنية
ربما كانت المدرسة تحاول كسر جمود الدرس عبر مثال طريف، وهو ما يفعله كثير من المعلمين لتقريب المفاهيم، لكن الخط الفاصل بين الدعابة التربوية والتأثير السلبي دقيق جدًا.
فما يراه الكبار “مزاحًا عابرًا”، قد يتحول في ذهن الصغار إلى “حقيقة دائمة” فى العقل الباطن و الا وعى .
المعلم الناجح هو من يختار أمثلته بذكاءٍ ووعيٍ واحترامٍ لإنسانية من أمامه، فيمزج بين المرح والانضباط، ويشرح المنطق بأمثلةٍ من عالم الأشياء والطبيعة لا من عالم الصفات الإنسانية التي قد تثير الحساسيات أو تُغذّي الصور النمطية.
هذه الواقعة الصغيرة تفتح بابًا أكبر للنقاش حول فلسفة التعليم في مدارسنا.
فهل ما زلنا نرى التعليم مجرد نقل معلومة؟ أم ندرك أنه صناعة وعي؟
إن ما يقال في قاعات الدرس اليوم سيتحوّل غدًا إلى طريقة تفكير مجتمعٍ كامل.
ولهذا فإن أي انحرافٍ في الأمثلة، أو في طريقة الطرح، هو انحراف في الاتجاه الذي يسير فيه وعي الأمة كلها.
فكما ان المدرسة تفتقد الوعي التربوي الكافي.
فالمجتمع الذي يسارع إلى السخرية من المقطع دون أن يتأمل معناه، ايضا مشارك دون أن يدري في نفس السطحية التي انتقدها.
الدرس الحقيقي الذي يجب أن نتعلمه ليس عن “كل الرجال” أو “بعض النساء”، بل عن كيف نتحدث وكيف نعلّم.
فالكلمة التي تُقال داخل الفصل ليست مجرد تمرين لغوي، بل بذرة فكرية قد تثمر وعيًا ناضجًا أو تعصبًا دفينًا.
وإذا كان أرسطو قد وضع قواعد للمنطق قبل أكثر من ألفي عام، فإن على معلمي اليوم أن يضعوا قواعد لاستخدام المنطق نفسه — قواعد تحترم العقول الصغيرة وتؤمن أن التربية تبدأ من الكلمة، لا من الكتاب.
كل الرجال أندال”.. حين يتحول منطق أرسطو إلى منطق اللاوعي