حماد الرمحي يكتب: حين يجوع حُرّاس الضمير… من سيُنير طريق الأمة؟

بين طيّات الألم، تنساب الأقلام حزينةً وهي تخطّ مأساتها الخاصة؛ يكتبون عن جوع البشر ويوثقون جراح الأمة، بينما ترتعش أقلامهم من جوعٍ أشدّ قسوة: جوع الكرامة!
إنه الجوع الذي لا يُسكت إلا بالعدالة، ولا يُشفى إلا بالاعتراف بقيمة من يحملون على أكتافهم عبء صناعة الوعي ومسؤولية صيانة الحقيقة.
لقد شقّ مشهد الزملاء في «الوفد» جدار الصمت كالصاعقة؛ ناموا على البلاط البارد ليصنعوا من أجسادهم جسرًا للعزّة، يحملون في حقائبهم الخاوية أمل أمة، وفي قلوبهم النابضة إصرار من يعرفون أنهم حملة مشاعل في عصر الظلمات.
لم يطلبوا نعيمًا ولا ترفًا، بل طالبوا بعدلٍ يساوي ثمن قلمٍ يكتب بهجة الوطن، أو يحفر على جدار الأزمات تحذيرًا، فكان اعتصامهم نشيدًا وطنيًّا مكتوبًا بالعرق والدموع، وصيحةً في وجه كل من ظنّ أن الصحفي متطوّع في سوق النخاسة الفكرية!
إنّ الواقع المرير الذي يعيشه الصحفيون يشبه مهزلةً تراجيدية: فمن يكتب عن الفقر يُفقَر، ومن يحمل رسالة الوعي يُهان! وبينما يرتقي الصحفي في دول العالم إلى مصافّ السفراء والقادة، نرى زملاءنا يزحفون تحت خط الفقر المهني؛ حيث لم تصل مرتبات أغلبهم عتبة 5000 جنيه.. خمسة آلاف جنيه ثمنًا لضميرٍ يكتب، وعقلٍ يفكر، وروحٍ تتألم!
ليس هذا فحسب، بل إنّ مئات الصحفيين ما زالوا يعملون بـ«قانون الصخرة»: بلا مرتبات، ولا بدلات، ولا تأمينات، ولا معاشات، بينما أجور الصحفيين في معظم دول العالم تزيد على 3000 دولاراً شهرياً!
أيها السادة، هذه ليست مجرد قضية نقابية تخصّ فئة من المواطنين؛ إنّها معركة وجود للأمة، فحين يجوع من يحملون مصابيح التنوير، لن تجد من يُنير الطريق أمام سفينة الوطن؟
إنّ إفقار الصحفي تفكيكٌ منهجي لجدار المناعة الفكرية للأمة؛ وهو تسليط لظلامٍ إعلاميّ يفتح الباب على مصراعيه للشائعات والفساد والفكر المتطرف، وحضانة مثالية لنمو الإرهاب.
وتظل كلمات وزير الدعاية الألماني «غوبلز» شاهدًا تاريخيًا على حكمة الأمم التي أدركت أن الصحافة خط الدفاع الأول عن كيان الدولة؛ فحين سُئل عن سبب رفع أجور الصحفيين قال: «لسنا نصنع رفاهيةً، إنما نحمي استقرارًا وطنيًا.»
والحقيقة التي لا جدال فيها، أن القلم الجائع يتحوّل إلى «سلعة» في سوق المزايدات، والصحفي المهمّش يصير بوقًا للفكر المتطرف، وأنّ كرامة الصحفي هي المرآة العاكسة لوجه الأمة الحضاري؛ فكيف تريدون للعالم أن يرى وجهكم وأنتم تُذلّون حرّاس الحقيقة وسفراء الوعي؟!
لقد أضاء زملاؤنا في «الوفد» شمعة الأمل؛ ذكّرونا أنّ الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع من أحشاء اليأس، وكان اعتصامهم بيانًا كتبوه بأجسادهم قبل أقلامهم: «لسنا متسوّلين؛ نحن حرّاس الحقيقة الذين يطلبون حقًّا مشروعًا ليواصلوا حراسة الوطن.»
هنا، عند هذا المنعطف التاريخي، يبدأ الإصلاح الحقيقي… فلا تنمية بلا إعلامٍ حرٍّ كريم، ولا وطن قويّ بلا صحفي حرٍّ يشبع بكرامة.
إنّ بناء مصر الجديدة يبدأ ببناء كرامة من يكتبون عنها، ويحلمون بها، ويحرسون وعيها، ويرسمون مستقبل أجيالها.
فليكن ما حدث في «الوفد» بداية نهضةٍ صحفيةٍ شاملة؛ فالقلم الذي يكتب مجد الأمة يجب أن يعيش بمجدٍ في الأمة.