لم يكن “حليم .. أسرار وحكايات مع الحكام العرب” مجرد كتاب جديد يضاف إلى رفوف المكتبة العربية، بل كان كشافا سلط ضوءه على منطقة ظلت لسنوات طويلة محاطة بالرهبة والالتباس، منطقة يلتقي فيها الفن بالسلطة، والموسيقى بالقرار السياسي، والموهبة بالتاريخ.
إن ما فعلته الكاتبة سمية عبدالمنعم في هذا العمل لا يشبه مجرد توثيق لسيرة مطرب عظيم، بل أقرب إلى فتح ملف مغلق داخل ذاكرة الأمة، ملف فيه العندليب الأسمر يتحدث بلسان عصره، ويكشف كيف استطاع الصوت أن يتحول إلى قوة دبلوماسية ناعمة تتجاوز حدود الحناجر والألحان، وتلامس قلب السلطة نفسها.
ومن هنا يبدأ السؤال الحقيقي، هل كان حليم فنانا فقط، أم رجل دولة بصوت من ذهب؟
كتاب “حليم .. أسرار وحكايات مع الحكام العرب” ليس فقط بحثا في ذاكرة فنان، بل رحلة فكرية وإنسانية تنقلنا إلى زمن كانت فيه الكلمة تعادل الموقف، وكانت الأغنية بيانا سياسيا في ثوب عاطفي.
في هذا الكتاب تتجسد ملامح عبدالحليم حافظ كما لم نرها من قبل، فالفنان هنا لم يكن مجرد صاحب صوت رخيم، بل كان ضمير جيل يبحث عن هويته بين نكسة وانتصار، بين سلطة تسمع وملايين تنتظر اللحن الذي يرويها.
ما فعلته سمية عبدالمنعم في هذا العمل هو أنها أعادت تركيب الصورة، لا من زاوية فنية باردة، بل من منظور إنساني وسياسي دقيق، كأنها تقبض على التفاصيل التي تسكن ما بين السطور.
تناولت علاقة عبدالحليم حافظ بالحكام العرب كما لو كانت تكتب سيرة وطن يرى نفسه في صوت واحد، فجمعت بين العاطفة والمعرفة، بين الوقائع والخيال، دون أن تقع في فخ التبجيل أو التشويه، هنا تتجلى مهارة الكاتبة التي تعرف كيف تصوغ الحكاية فتمنحها روحا حقيقية.
حين نقرأ “حليم .. أسرار وحكايات مع الحكام العرب” نكتشف أن الفن في زمن عبدالحليم كان مؤسسة وطنية بحد ذاته، لا يقف عند حدود الطرب بل يتسلل إلى قلب السياسة، ليصنع لغة جديدة بين السلطة والجمهور.
عبدالحليم كان صديقا لجمال عبدالناصر، مقربا من السادات، ومعروفا لدى ملوك المغرب والأردن والعراق، ومع ذلك لم يفقد بساطته أو صدقه.
كان يدرك أنه يعيش وسط معادلة معقدة، فيها الفن يصير جسرا للثقة أحيانا، وأداة للنفوذ أحيانا أخرى، لكنه ظل يختار موقعه بعفوية العبقري الذي يلمح الخطر ولا يخشاه.
أعجبني في الكتاب طريقة عرض سمية عبدالمنعم للأحداث، فهي لا تكتفي بسرد القصص بل تحللها، تربطها بمناخها السياسي، وتضع القارئ أمام مشهد متكامل، كما لو كانت تؤرخ من داخل الكواليس.
في صفحاته نرى عبدالحليم حافظ وهو يغني أمام الزعماء العرب، نرى صداقته بالملك الحسن الثاني، ونسمع صدى أحاديثه عن ناصر والسادات، ثم نلمح ملامح القلق التي كانت تسكن عينيه كلما ذكر فلسطين، تلك المواقف لا تروى كحكايات ترفيهية بل كوثائق إنسانية تحمل وجعا حقيقيا وأملا كبيرا.
الكاتبة هنا لا تتحدث بلسان المعجب، بل بوعي المؤرخ الذي يعرف أن الحكاية الفنية لا تكتمل دون فهم سياقها السياسي.
ولهذا يبدو الكتاب أشبه بجسر بين زمنين، بين ماض كانت فيه الأغنية تعبر عن الحلم الجمعي، وحاضر تاه فيه المعنى وسط صخب السرعة والسطحية.
وأنا أقرأ، كنت أستعيد مشهد مصر وهي تبني السد العالي على أنغام “بالأحضان”، وأتخيل عبدالحليم واقفا أمام الميكروفون يغني وهو يعرف أنه لا يغني لنفسه، بل لأمة بأكملها.
في رأيي الشخصي، هذا الكتاب لا يقدم فقط قراءة في حياة عبدالحليم، بل يقدم درسا في معنى التأثير. فالفنان الحقيقي ليس من يملأ الساحات بصوته، بل من يترك صدى يبقى بعد أن يسكت.
والكاتبة استطاعت أن تنقل هذا الصدى بحس نقدي راق، وبلغة متينة تشبه أسلوب الصحافة المصرية الأصيلة، تلك التي تعرف كيف تلمس القلوب دون أن تفرط في عمق الفكرة.
لقد أحببت في “حليم .. أسرار وحكايات مع الحكام العرب” هذا التوازن بين الحنين والتحليل، بين العاطفة والعقل.
فالكاتبة لم تتعامل مع عبدالحليم كرمز مقدس، بل كإنسان يعيش بين الضوء والظل، بين الحب والخذلان، بين الطموح والمخاوف.
وفي هذا الصدق يكمن سر جمال الكتاب، إنها تكتب كما لو كانت تحاور روح عبدالحليم، تستنطقه عن مواقفه، عن خوفه من المرض، عن حبه الذي أخفاه، وعن علاقته بالزعماء الذين رأوا فيه أكثر من مجرد فنان.
منذ زمن لم أقرأ عملا بهذا النضج، لأن أغلب ما يكتب عن رموزنا الراحلة يقع بين طرفي المبالغة أو الجفاء، لكن هنا نحن أمام نص يعرف كيف يحترم ذاكرة القارئ، لقد امتلكت سمية عبدالمنعم شجاعة الدخول إلى منطقة ظلها ثقيل، حيث تتقاطع السياسة مع الفن، والولاء مع الموهبة، لكنها خرجت من التجربة بعمل متماسك يليق بتاريخها ككاتبة وقاصة تعرف جيدا وزن الكلمة ومسؤوليتها.
ربما أجمل ما في الكتاب أنه يعيد تعريف معنى الحلم في زمننا الحالي، فبينما يغرق العالم في ضجيج عابر، يأتي صوت عبدالحليم من صفحات الكتاب ليذكرنا أن الفن كان يوما صانعا للهوية، وأن الفنان يمكن أن يكون ضميرا للأمة لا تابعا لها. والكاتبة من خلال لغتها الهادئة استطاعت أن تزرع في القارئ هذا الإحساس دون وعظ أو مبالغة.
إن “حليم .. أسرار وحكايات مع الحكام العرب” ليس مجرد وثيقة عن الماضي، بل مرآة تعكس حاضرا متعبا يبحث عن معنى الفن بعد أن فقد بريقه، هذا الكتاب يجعلنا نعيد التفكير في العلاقة بين السلطة والمبدع، بين الصوت والقرار، بين الفن والوجدان. وربما لهذا السبب، أشعر أن عبدالحليم حافظ ما زال حيا في وعينا الجمعي، يطل من بين السطور بابتسامته التي تخفي الكثير، وكأنه يقول لم أكن أغني لكم فقط، كنت أحاول أن أغير العالم بطريقتي.
ولا أملك إلا أن أحيي الكاتبة على هذا الجهد الحقيقي الذي يعيد إلى الذاكرة جمال الحكاية وعمق التجربة، ويذكرنا بأن الكتابة عن العندليب ليست بحثا في الماضي، بل استعادة لزمن كان فيه الفن أكبر من الشهرة، وأصدق من السياسة، وأقرب إلى وجدان الناس.

