انتشرت القصة كالنار في الهشيم:
“الموساد اغتال مهندسًا مصريًا كان يحمل أسرارًا نووية خطيرة!”
عناوين رنانة، ومقاطع درامية، وتحليلات غامضة عن الصراع الخفي بين أجهزة المخابرات.
لكن، مهلاً…
المرحوم كان يعمل مندوب مبيعات.
نعم، مندوب مبيعات، وليس باحثًا في مفاعل الضبعة، ولا حاملًا لمخططات تخص اليورانيوم المخصب.
الحقيقة أبسط بكثير، بل موجعة أكثر.
الفتى كان خريج هندسة نووية — تخصص نادر فعلاً، لكنه في مصر نادر الاستعمال أيضًا.
قسم يخرج كل سنة ما بين خمسين إلى مئة مهندس، يعيش أغلبهم في صمتٍ مهني طويل لا علاقة له بالذرة ولا بالمفاعلات.
فمنهم من يعمل في الكهرباء، ومنهم من يتجه للميكانيكا، ومنهم من يبيع الأجهزة، ومنهم — كصاحبنا الراحل — من ينتهي به المطاف مندوب مبيعات.
وهكذا، بينما العالم يتحدث عن الطاقة النووية كقوة المستقبل، نحن نتعامل مع خريجيها كـ”خسارة دراسية”.
تخيل أن بلدًا يتباهى بإقامة محطة نووية لا يفتح بابًا واحدًا لاستيعاب خريجي هذا التخصص الذي يُفترض أنه “مستقبل الطاقة” في مصر!
ثم يأتي من يقول إن الموساد اغتاله.
يا سادة، لو الموساد كان يغتال كل خريج نووي في مصر، لاحتاج إلى قسم خاص للمبيعات والتسويق لتتبع أماكنهم.
الواقع أن الموساد بريء من دم هذا الشاب، كبراءة الحكومة من تشغيله في تخصصه.
الذي اغتاله فعلًا هو الفراغ، والإحباط، واللامبالاة التي تجعل خريج الهندسة النووية يبيع أجهزة كهربائية بدلًا من أن يصمم مفاعلاتها.
نحن نعيش في مجتمع لا يقتل العلماء، بل يُهملهم حتى يختفوا من تلقاء أنفسهم.
ثم إذا مات أحدهم في حادث غامض، نغسل أيدينا من التقصير ونقول: “أكيد الموساد”!
كأننا نخاف مواجهة الحقيقة: أن أكبر جهاز اغتيال في بلادنا ليس المخابرات الإسرائيلية، بل نظام التعليم وسوق العمل الذي يدهس الكفاءات دون أن يشعر.
لقد صار مشهد المهندس النووي الذي يعمل في التسويق مألوفًا مثل الطبيب الذي يقود تاكسي، والعالم الذي يفتح محل موبايلات.
مأساة جماعية مكررة، لكننا نُفضل أن نبحث لها عن مؤامرة أجنبية بدل أن نعترف بأننا نحن من صنعناها بأيدينا.
رحم الله المهندس،
ورحم فينا ما تبقى من عقلٍ يرى الواقع كما هو — لا كما يريده “التريند”.

