التوكتوك… مركبةٌ احتضنت ضحايا سياساتٍ اقتصادية
لم يكن التوكتوك مجرد وسيلة مواصلات انتشرت في القرى والنجوع والحواري، بل كان في جوهره حضنًا اقتصاديًا واسعًا لآلاف الحرفيين الذين لفظتهم حركة الصناعة. هؤلاء الذين كان يفترض أن يكونوا عمادًا للصناعات الصغيرة والورش التقليدية، وجدوا أنفسهم يتساقطون خارج خطوط الإنتاج واحدًا تلو الآخر، ليس لأنهم بلا موهبة، بل لأن بيئة العمل التي أحاطت بهم اختارت أن تُغلق الأبواب بدل أن تفتحها.
لقد كانت الورش الصغيرة، يومًا ما، مدارس شعبية تُخرّج أمهر السباكين والحدادين والميكانيكية وصناع الأثاث والموبيليا. لكن السياسات التي حاربت الصناعات الصغيرة تحت لافتة “مصانع بير السلم” أدت إلى إضعاف هذه الحرف بل وإعدامها في بعض المناطق. ورغم أن الصين نفسها كانت تقوم على ورش كهذه، تعمل بالهندسة العكسية وبإمكانات محدودة، فإن أحدًا لم يعيب عليها ذلك. بل احتضنتها الدولة ورعتها، حتى غزت العالم بمنتجاتها. وكذلك باكستان التي تسير في الطريق ذاته اليوم، تفتح أمام صناعها الأبواب، وتسيّر لهم قنوات تصدير بدل أن تعقدها.
في مصر حدث العكس تمامًا. بدل دعم الحرفي، حاصره المجتمع والإعلام؛ فبدل أن يقال عن صناعة صغيرة إنها “جرأة على الإنتاج” أو “بذرة مصنع”، أصبح وصف “صناعة بير السلم” تهمة جاهزة، تسلب الحرفي احترامه وثقة الناس فيه. هذا الخطاب الإعلامي كرّس ثقافة تزدري العمل اليدوي، وتدفع الشباب بعيدًا عن الورش والحرف الأصيلة نحو أعمال سهلة وسريعة مثل قيادة التوكتوك، حتى لو كانت بلا مستقبل. المجتمع نفسه شارك في إعدام الحرف دون أن يدري.
ثم جاء المستورد ليضع مسمارًا جديدًا في نعش الصناعة المحلية؛ فبدل أن يفتح الأسواق لمنتجات المصريين، أغرقها ببضائع أرخص بفضل دعم دولها، بينما حُرم الحرفي المصري من أي دعم. كل طن من البضائع المستوردة يغلق باب رزق هنا، ويفتح باب رزق هناك، في مصانع بعيدة في الصين أو تركيا أو غيرها. ومع كل شحنة تمر عبر الميناء، يخسر الحرفيون المصريون فرصة، بينما يكسب الحرفيون في الخارج قوت يومهم على حسابنا. إنها معادلة جائرة لا رابح فيها إلا المستورد الذي يبحث عن المكسب السريع ولو على أنقاض الصناعة الوطنية.
ولم يكن غريبًا بعد كل هذا أن يجد الشباب في التوكتوك بديلًا. فهذه المركبة الصغيرة احتضنت ضحايا السياسات الاقتصادية، ووفرت مصدر دخل سريعًا لمن أُغلقت في وجهه ورش التعليم المهني وورش الصناعة الصغيرة. وإذا طُرح فجأة إيقاف التوكتوك دون خطة موازية لإحياء الصناعة، فهذا يعني ببساطة خلق آلاف العاطلين الذين سيتدفقون إلى الشوارع بلا بدائل، وكأننا نصنع الأزمة بأيدينا.
الحل لا يكمن في تجريم التوكتوك بل في معالجة جذور المشكلة.
فعودة الحرفيين تبدأ بعودة احترام الحرفة، وإعادة الاعتبار للصناعة الصغيرة، وفتح قنوات تصدير حقيقية بدلاً من التعقيدات التي تعرقل من يريد أن ينتج. يجب أن تكون الدولة شريكًا حقيقيًا للحرفي، لا عائقًا أمامه. وأن يتحول المستورد من متهم بإغلاق المصانع المحلية إلى داعم لمنتجات وطنية تدخل أسواقًا جديدة.
إن إنقاذ الحرف لن يتم بالشعارات، بل بقرارات مدروسة تُعيد فتح الورش، وتخلق بيئة تُشجّع على الإنتاج لا تهدمه. وعندها لن يكون التوكتوك ملاذًا أخيرًا، بل خيارًا من بين خيارات متعددة في سوق عمل حيّ نابض. أما الآن، فالتوكتوك لا يزال يحتضن ضحاياها… حتى تقرر الدولة أن تحتضنهم هي أولًا.
م. خالد محمود خالد يكتب: التوكتوك المتهم البريء.. وكيف احتضن ضحايا الحرف؟

