يوسف عبداللطيف يكتب : برلمان يقف فوق رمال متحركة

لم أعد أرى المشهد السياسي في مصر اليوم كما يراه العابرون أو المعلقون من بعيد، بل أراه بعين من عاش مراحل اهتزاز الدولة، وسمع فرقعة اللحظات التي كادت تعصف بالبنيان كله، ثم شاهدها وهي تقف من جديد على قدميها. لذلك حين أتابع أجواء انتخابات مجلس النواب 2025، لا أتابعها باعتبارها جولة صناديق فقط، بل كحلقة جديدة في صراع طويل بين دولة تحاول تثبيت قواعد العمل الديمقراطي، وبين إرث من العشوائية القانونية التي ما زالت تلاحقنا من الماضي وتحاول أن تستعيد مكانها في الحاضر.
والحقيقة أن كل مرحلة انتخابية في مصر كانت تحمل بصمتها الخاصة: العقد الأول بعد يناير كان مليئا بالارتباك، والعقد الثاني شهد محاولة إعادة ترتيب الأوراق، أما العقد الحالي فهو اختبار لمدى قدرتنا على تجاوز العيوب ، لا الأشخاص ولا الأحزاب فقط. لذلك فإن الحديث عن برلمان 2025 ليس مجرد تحليل لوقائع، بل هو سؤال عن الصورة القادمة للحياة السياسية كلها، وهل سنتقدم خطوة للأمام أم نعود خطوة للوراء دون أن نشعر.
عندما أشاهد هذا الكم غير المسبوق من الطعون، وأرى كيف تحول الجدل القانوني إلى جزء أساسي من المشهد، أشعر وكأننا أمام إعادة إنتاج لصوت قديم ظننا أنه صمت: صوت الشك. الشك في مدى صلابة الإجراءات، الشك في قدرة المؤسسات على ضبط المسار، الشك في قيمة المنافسة نفسها. وهو ذلك الشعور الذي كان يلاحق المصريين زمن الانتخابات البرلمانية القديمة، حين كان الناس ينظرون للصندوق وكأنه صندوق أسئلة لا يملك أحد إجابة يقينية عنها.
لكن الفارق بين الماضي والحاضر هو أننا اليوم نمتلك أدوات قانونية ومؤسسية أقوى، ومع ذلك ما زلنا نكرر الأخطاء نفسها. وبدلا من أن يكون القانون هو الدرع الحامي للشرعية، أصبح هو نفسه ساحة المعركة، تفسر مواده بأكثر من وجه، وتستخدم ثغراته في ضرب النتائج قبل أن يجف حبرها.
أنا هنا لا أدافع عن طرف، ولا أهاجم طرفا آخر، بل أطرح سؤالا بسيطا: كيف يمكن لدولة تحاول أن تبني نموذجا سياسيا مستقرا أن تتحمل كل هذا القدر من العشوائية في إدارة أخطر استحقاق ديمقراطي لها؟ كيف نطلب من المواطن أن يثق في العملية بينما نحن لم نغلق بعد الأبواب التي يطل منها الشك؟
إن ما يحدث الآن يعيد إلى ذهني مشاهد 2012، حين بدا المجلس المولود حديثا وكأنه يقف فوق رمال قانونية متحركة، يتحرك خطوة فينهار تحته الأساس، ويتنفس فيتناثر الغبار حوله، حتى جاء الحكم النهائي بحله، ولم يكن أحد وقتها يتوقع أو يتمنى أن نعود إلى نقطة الصفر بهذه السرعة.
واليوم، وبرغم اختلاف الظروف، إلا أنني أرى الملامح نفسها تتكرر ولكن بثوب جديد.
الفارق الحقيقي بين الأمس واليوم هو أن الدولة الآن أكثر وعيا بتكلفة الخطأ، وأن أي خلل في شرعية البرلمان القادم لن يكون مجرد أزمة عابرة، بل أزمة سياسية عميقة تمتد آثارها إلى الاقتصاد والمجتمع والمستثمر والعالم الخارجي. وبرغم ذلك، ما زلنا نتعامل مع تفاصيل العملية الانتخابية وكأنها هامش، وليست قلب المشروع السياسي كله.
لقد أصبح واضحا أن المشهد في حاجة إلى إعادة ضبط شاملة، لأن المشكلة ليست في صندوق أو لجنة أو دائرة فقط، بل في الفلسفة التي تدار بها العملية الانتخابية من الأصل. الفلسفة التي ما زالت تتعامل مع المنافسة السياسية باعتبارها معركة يجب إدارتها بحذر، لا باعتبارها ممارسة طبيعية لبناء دولة حديثة. وكلما استمرت هذه العقلية، سيبقى الصدام مع القانون واقعا، وستظل الطعون تسير بجانب الصناديق خطوة بخطوة.
ولست من أنصار جلد الذات، لكنني أيضا لست من أنصار التجميل. فالحقيقة التي يجب أن تقال هي أننا وصلنا إلى لحظة تحتاج إلى صراحة، لا إلى مجاملات. وإذا كنا نريد برلمانا قادرا على التعبير عن الناس بحق، فعلينا أولا أن نعترف بأن الطريق إلى هذا البرلمان ما زال مليئا بالحفر. ولن يوقف هذا الانزلاق إلا إرادة سياسية واضحة تحسم الأمر من جذوره، وتعيد النظر في البناء كله قبل أن نتورط في مؤسسة تحمل شبهة عدم دستورية منذ يومها الأول.
وإذا كان الماضي قد علمنا شيئا، فهو أن تجاهل المشكلات لا يعطيها حلا، بل يعطيها مساحة أكبر للنمو. والمستقبل لن يغفر لنا إذا تركنا الفرصة تضيع مرة أخرى. فأنا لا أريد أن أرى مصر تعود للعراك الدستوري ولا لصخب الشارع ولا لصوت الطعون الذي يرتفع فوق صوت الناس. أريد برلمانا يحترمه الناس لأنه ولد من إرادة واضحة وإجراءات شفافة وليس من معادلات ملتبسة.
إن اللحظة التي نعيشها الآن ليست لحظة خوف بل لحظة اختيار. إما أن نقبل المشهد كما هو، مهتزا ومشحونا بالثغرات، وإما أن يكون لدينا شجاعة دفن هذه الفوضى، وبداية مرحلة جديدة أكثر نضجا. وأنا أميل إلى الخيار الثاني، لأنه وحده الذي يضمن مستقبلا سياسيا مستقرا ويعيد ثقة المواطن في أن صوته ليس مجرد رقم في محضر، بل قيمة في دولة تريد أن تبني نفسها على قواعد سليمة.
وأقولها بوضوح كما أكتبها بضمير مطمئن: مصر تستحق برلمانا لا يخجل الناس من الدفاع عنه، ولا يضطر القانون إلى حمله على أكتافه، ولا تتعثر شرعيته عند أول اختبار. مصر تستحق مؤسسة تشبه حجمها الحقيقي، وتشبه طموح شعبها، لا مؤسسة تعيش تحت ظل الطعون. ولسنا أقل من أن نصنع ذلك، إذا امتلكنا الشجاعة والرؤية والإرادة.








