عودة الروح للمتحف الوطني الليبي بقصر الشعب التاريخي في طرابلس بعد إغلاقه 14 عاما
عبد الحميد الدبيبة: المتحف ليس مجرد جدران تضم قطعا أثرية فحسب؛ بل هو ذاكرة وطن كامل، وسجل يروي من كنا، وما أردنا أن نكون، وما سنتركه للأجيال القادمة.. والدكتور عمر المشري: ليبيا رغم كل التحديات، تمضي بثبات نحو بناء مستقبل يليق بتاريخها العريق والمتحف منصة تجمع بين الماضي والحاضر ويروي للأجيال القادمة قصة وطن آمن بأن الثقافة والمعرفة هما أساس النهضة والاستقرار

كتب: محمد حربي
الزمان.. الجمعة الثاني عشر من شهر ديسمبر لعام 2025، وفي ليلة من إحدى الليالي الليبية الساحرة.. المكان قصر الشعب التاريخي في قلب العاصمة طرابلس.. والحدث، هو عودة الروح إلى المتحف الوطني الليبي، الزاخر بالتراث والثقافة، وهو يحمل بين جدرانه عبق الماضي وسحر الحاضر، ومقتنيات أثرية تشكل جزءاً أصيلاً من التاريخ الليبي الغني والمتنوع؛ بعد أربعة عشر عاماً من إغلاقه، فرضتها ظروف سحابة صيف سياسية، وأمنية استثنائية، عاشها الليبيين؛ ولتعود روعة حضارة الليبيين في قلب عاصمتهم، تتألق من جديد، مستمدةً أمجادها من أعماق التاريخ.


واليوم، يقف الخلق جميعاً، وهم ينظرون، كيف يعيد شعب ليبيا أمجاده من جديد، مع افتتاح رئيس الوزراء الليبي- عبدالحميد الدبيبة، للمتحف الوطني بقصر الشعب التاريخي، في قلب العاصمة الليبية طرابلس، بمشاركة رئيسي وأعضاء المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة؛ وفي حضور السفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية المعتمدين في ليبيا، وعدد كبير من الشخصيات الثقافية والأكاديمية من الضيوف العرب والأجانب، ولفيف من الصحفيين والإعلاميين الليبيين، وممثلي وكالات ووسائل الإعلام العالمية، وحشد ضخم من أبناء الشعب الليبي، وملايين من العرب والشعوب الأخرى، التي شاهدت البث المباشر للفعاليات، عبر الشاشات في العواصم الدولية المختلفة، ومن بينها قاهرة المعز.

ففي قاعة من قاعات أحد الفنادق الكبرى المطلة على نهر النيل، أقامت السفارة الليبية لدى جمهورية مصر العربية، احتفالية ضخمة؛ ليتقاسم أعضاء البعثة الدبلوماسية، برئاسة الدكتور عمر المشري- نائب السفير الليبي، ووزير مفوض ورئيس القسم السياسي والتعاون الدولي في سفارة ليبيا بالقاهرة، فرحة الحدث التاريخي الضخم، مع أبناء الجالية الليبية، وشخصيات مصرية، وعربية، والصحفيين والإعلاميين.

وقد أكد عبدالحميد الدبيبة- رئيس مجلس وزراء ليبيا، في كلمته أمام الضيوف، على أن المتحف الوطني الليبي، ليس مجرد حوائط وجدران تضم قطعا أثرية فحسب؛ بل هو ذاكرة وطن كامل، وسجل يروي من كنا، وما أردنا أن نكون، وما سنتركه للأجيال القادمة.

كما أوضح الدبيبة، أهمية الحفاظ على التراث الليبي، وتعزيز الهوية الوطنية، ودور المتحف في إبراز تاريخ ليبيا بمختلف مراحله، ليكون مرجعا للأجيال الحالية والمقبلة.

وفي ختام مراسم الافتتاح، قام عبدالحميد الدبيبة، بتكريم الطاقم المؤسس للمتحف الوطني الليبي، تقديرا لجهودهم في الحفاظ على مكتنزات المتحف وصون مقتنياته، وحمايتها خلال مختلف المراحل، إلى جانب دورهم في إعداد المحتوى والعرض المتحفي، بما يضمن بقاء هذا الإرث الحضاري محفوظا وموثقا للأجيال القادمة، ويجسد قيمة الأمانة الوطنية في حماية الذاكرة التاريخية لليبيا.

ومن جانبه أعرب الدكتور عمر المشري- – نائب السفير الليبي، ووزير مفوض ورئيس القسم السياسي والتعاون الدولي في سفارة ليبيا بالقاهرة، في كلمة ألقاها نيابة عن السفير عبد المطلب إدريس ثابت- سفير ليبيا لدى جمهورية مصر العربية، ومندوب ليبيا الدائم لدى جامعة الدول العربية، عن ترحيبه بكل الضيوف المصريين، والعرب، والأجانب، من شخصيات دبلوماسية، وفكرية وثقافية، وصحفية وإعلامية، ممن حرصوا على مشاركة البعثة الدبلوماسية، والجالية الليبية بالقاهرة، فرحة افتتاح المتحف الوطني الليبي، عبر شاشات البث المباشر.
وقال الدكتور عمر المشري: إن افتتاح المتحف الوطني الليبي، في العاصمة الليبية طرابلس، هو يوم مميز؛ نظراً لما يمثله من صرح ثقافي، يشكل محطة هامة في مسار حفظ الذاكرة لعروس البحر الوطنية وترسيخ الهوية الليبية العريقة.
وأوضح الدكتور عمر المشري، ان حضور الضيوف، من أجل متابعة هذا الحدث التاريخي، عبر شاشات البث المباشر، هو دليل تقدير من الجميع لإرث ليبيا الحضاري؛ مشيراً إلى أن هذا الإرث الذي يمتد لآلاف السنين، ويشهد على إسهامات حضارات عرفتها الأرض الليبية من الإغريق والرومان، إلى الحضارة العربية الإسلامية.
وأشار الدكتور عمر المشري، إلى أن افتتاح المتحف الوطني الليبي، يأتي ليجسد رؤية وطنية تقوم على صون التراث والآثار والمحافظة عليها بوصفها جزءاً من شراكة إنسانية مشتركة؛ موضحاً أن ليبيا رغم كل التحديات، تمضي بثبات نحو بناء مستقبل يليق بتاريخها العريق ويأتي هذا المتحف ليكون منصة تجمع بين الماضي والحاضر وليروي للأجيال القادمة قصة وطن آمن بأن الثقافة والمعرفة هما أساس النهضة والاستقرار.
وأضاف الدكتور عمر المشري، أنه باسم سفارة دولة ليبيا بالقاهرة؛ فقد أعرب عن شكرهم العميق لكل من أسهم في إنجاز هذا المشروع الوطني المهم، ولجميع الضيوف الكرام الذين شاركوهم لحظة الافتتاح؛ معتبراً أن حضورهم لحفل الافتتاح، كان يمثل رسالة دعم واضحة للثقافة الليبية، ودافعا إضافيًا لمواصلة العمل من أجل حماية تراثهم وإبرازه للعالم.
وشدد الدكتور عمر المشري، على أنه يتمنى أن يكون هذا المتحف منارة إشعاع ثقافي وجسرا لتعزيز الروابط الثقافية بين ليبيا وأشقائها العرب وأصدقائها في محيطها الاقليمي وأن تكون هذه المناسبة خطوة جديدة نحو مستقبل أكثر ازدهارا واستقرارا.

وقد تضمن العرض الموسيقى لافتتاح احتفالية للمتحف الوطني الليبي بطرابلس؛ الذي قدمته فرقة “ORCHESTRA ITALIANA DEL CINEMA” السمفونية، بإشراف الموزع الموسيقي الليبي معتز سلامة، ومن إخراج المخرج الليبي أسامة رزق، مايسسترو الرؤية الإخراجية للعرض الاحتفالي، فيما أُسندت إدارة المحتوى إلى صفوان أبوسهمين، وتولى التنفيذ والتقنية كل من المهندس عبدالله إكسيبرا والمهندس حمزة الخامسة؛ مع الاستعانة بشركات محلية وأجنبية، ومسؤول الإبداع عدلي العكاري.

وكان السرد البصري، والفني، الذي تم تقديمه على شكل محطات متتابعة مبهراً، عكس مكونات المتحف وقطاعات عرضه؛ حيث استعرض العرض مراحل فجر الحضارة وما قبل التاريخ، والقبائل الليبية الأمازيغية، والعصور الكلاسيكية، ثم العهد الإسلامي والعصر القرمانلي، وصولا إلى مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال؛ وبجانب هذا وذاك، تناول العرض محاور التاريخ الطبيعي لليبيا، والثقافة والتقاليد، قبل أن يُختتم بمحور المستقبل، في تقديم فني يربط بين الموروث الحضاري والرؤية الوطنية المعاصرة.

موضحاً، أن المتحف يفتتح أبوابه بحلة جديدة بعد استكمال أعمال ترميم شاملة شملت تطوير منظومة العرض المتحفي وتحديث البنية التحتية للقاعات ووسائل العرض، بمساهمة کوادر وطنية من مختلف المناطق الليبية، عملت على إعداد المتحف بما يواكب المعايير الدولية، وبهدف تعزيز حضور ليبيا على خارطة التراث العالمي.
وأشار البيان إلى أن هذا الإنجاز؛ قد تحقق بدعم ورعاية حكومة الوحدة الوطنية، التي أولت اهتمامًا واضحًا بصون التراث الوطني، في إطار جهودها لإحياء المؤسسات الثقافية وتعزيز الهوية الليبية، ويأتي الافتتاح ضمن رؤية شاملة تهدف إلى توفير بيئة مناسبة لحفظ الموروث الحضاري، وإعادة الاعتبار للمواقع والمتاحف التي تشكل ذاكرة الليبيين عبر العصور.
وأضاف البيان، أن المتحف، يضم مجموعة واسعة من القطع الأثرية النادرة، أبرزها مومياء “وان موهيجاج” أقدم المومياوات في أفريقيا، ومومياء الجغبوب التي يتجاوز عمرها 1800 عام، إضافة إلى معروضات تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، ومقتنيات من العهد البيزنطي والحضارتين الرومانية والإغريقية، إلى جانب مجموعة من الفسيفساء الشهيرة مثل لوحة “الفصول الأربعة” وغيرها من القطع التاريخية.

كما يحوي المتحف جناحًا خاصا بالقطع كما يحوي الأثرية المستردة من الخارج، وأقساما مخصصة للقبائل الليبية القديمة والحضارة الإسلامية والتراث والحياة التقليدية، ومساحات مُهيّأة لعرض سير المجاهدين والشخصيات الوطنية. وتتضمن الأقسام قاعات للتنوع الطبيعي مزوّدة بتقنيات حديثة، مثل الشاشات التفاعلية والخرائط الرقمية والنماذج الافتراضية التي تتيح للزوار استكشاف الصحراء الليبية وبيئاتها المتنوعة.
وعليه فإن هذا الافتتاح، يمثل خطوة مهمة نحو تعزيز الاستقرار في العاصمة طرابلس، وإبراز الجانب الثقافي والهوية التاريخية والتراثية لليبيا، ودعم عودة النشاط السياحي وتشجيع الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالثقافة. وأن افتتاح المتحف بحفل موسيقي كبيرٍ، قدمته فرقة أوركسترا السينما الإيطالية العالمية، وهي أول أوركسترا سيمفونية إيطالية مخصصة بالكامل للموسيقى التصويرية، إلى جانب عروض فنية وبصرية تسرد تاريخ ليبيا الممتد منذ آلاف السنين، بحضور رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة ، ورئيسي وأعضاء المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة، وعدد من الوزراء والسفراء المعتمدين لدى دولة ليبيا، وكبار الشخصيات الدبلوماسية.
وأعتبر البيان، أن افتتاح المتحف الوطني، يأتي ضمن فعاليات الدورة الخامسة لـ”أيام طرابلس الإعلامية 2025″، التي تُعد من أبرز التجمعات الإعلامية في ليبيا، تهدف إلى جمع قادة الفكر ورواد صناع المحتوى والخبراء الإعلاميين من داخل ليبيا وخارجها، بمشاركة منصات وقنوات محلية وعربية وذلك لمناقشة التطورات واستشراف آفاق جديدة في المشهد الإعلامي الليبي والعربي.
جدير بالذكر، أن المتحف الوطني الليبي، قد تم تأسيسه في عام 1919م.، وجرى افتتاحه رسميا لأول مرة العام 1988، وهو أول متحف للآثار جرى إنشاؤه في طرابلس، ويقع داخل قلعة السراي الحمراء؛ التي تعتبر من أهم معالم طرابلس التاريخية؛ وقد أطلق عليها اسم السراي الحمراء، لأن بعض أجزائها كانت تطلى باللون الأحمر، وهي تقع في الزاوية الشمالية الشرقية من مدينة طرابلس القديمة، وتشرف على مينائها الأمر الذي مكنها من حماية المدينة والدفاع عنها برا وبحرا.
بعد مرور نحو أربعة عشر عاماً، من إغلاق المتحف الوطني الليبي، لظروف استثنائية سياسية وأمنية، شهدتها ليبيا؛ إلى أن انطلقت في عام 2023م، وبقرار من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، أعمال الصيانة والترميم، وإجراء التحديثات، مع الاعتماد على أحدث تقنيات العرض في 48 قاعة.

ومن الروايات التاريخية، حول التأسيس الأول للسراي الحمراء، أنها ترجع إلى العهد الكلاسيكي، وعند دخول العرب المسلمين إلى طرابلس أجريت بها الكثير من الإصلاحات، وقد اضطر الإسبان إلى إعادة بناء القلعة بالكامل تقريبا، نتيجة الدمار والخراب الذي لحقها من جراء غزوهم سنة 1510م.؛ ثم عند استيلاء الأتراك على القلعة سنة 1551 م.، قاموا بعدة إضافات وتغيرات فيها؛ حيث اتخذها الحاكم التركي مركزا لحكمه، ومقرا لسكناه؛ وعندما استقل أحمد باشا القرمانللي بحكم البلاد سنة 1711م.، استعملها مقرا خاصا به وبأسرته بالإضافة إلى مقر حكمه؛ إلى أن قام الإيطاليون باحتلال ليبيا في سنة 1911م.؛ فاستغلوا جزءا من القلعة كمقر لإدارتهم، وحوّلوا بعض مساكنها إلى سجون.

هذا ويضم المتحف الوطني، كنوز ليبيا الأثرية ويجسد تنوعها الثقافي والحضاري من أعماق الصحراء إلى سواحل المتوسط، ومن عصور ما قبل التاريخ إلى العصر الحديث، حيث يأخذ الزوار في رحلة عبر الزمن، يستكشفون من خلالها إرث ليبيا العريق.
كما يحتوي المتحف على الآلاف من القطع الأثرية النادرة، من التماثيل والمخطوطات إلى الفسيفساء والمنحوتات، التي تروي تاريخ الحضارات التي تعاقبت على ليبيا منذ آلاف السنين؛ ومن بين الأجنحة التي يحتويها المتحف الوطني الليبي، جناح المرحلة الكلاسيكية (600 ق.م – 642 م)، والتي توثق حضارات البونيقيين، والإغريق، والرومان عبر أقسام مخصصة لكل منطقة، و”قسم القبائل الليبية” الذي يوثق حياة القبائل خلال الفترة (1000 ق.م – 600 ق.م)، بمقتنيات فريدة تسرد تاريخ تلك الحقبة، و”القسم الطبيعي” الذي يعرض مجموعة من الحفريات والنماذج الجيولوجية التي تحكي قصة نشأة الحياة وتطور الأنظمة البيئية التي شكلت أرض ليبيا منذ آلاف السنين.
وكذلك يحتوي المتحف أيضا على قسم آخر، هو “القسم الإسلامي” (642 م – 1911 م)، الذي يعرض قصة دخول الإسلام إلى ليبيا وانتشار اللغة العربية، مرورا بمراحل الحكم المختلفة وصولا إلى العهد العثماني، مع استعراض مجموعة من التحف والكنوز التي تعكس روعة الحضارة الإسلامية في ليبيا وجمال العمارة التاريخية، إلى جانب قسم “الجهاد الليبي” في المتحف (1911م – 1951م) الذي يهتم بتوثيق مرحلة مهمة من تاريخ ليبيا ويأخذ زواره في رحلة عبر تاريخ الكفاح البطولي ضد الاحتلال الإيطالي حتى تحقيق استقلال ليبيا، بالإضافة إلى عرض الأسلحة والمقتنيات الشخصية للمجاهدين، لتسرد قصصا عن تضحياتهم ونضالهم من أجل حرية الوطن.
ومن أبرز ما يحتوي المتحف الوطني الليبي جناح “قسم التراث”؛ الذي يروي حكاية ليبيا عبر العصور، حيث يلتقي الشرق بالغرب والجنوب، وتمتزج ثقافات وأعراق المجتمع في لوحة تراثية نابضة بالحياة، من الشعر والرقصات التقليدية إلى الحرف اليدوية والأزياء، لتنبض كل قطعة بروح التاريخ، شاهدة على عمق حضارة ليبيا وتنوع إرثها الثقافي.

















