د. حسني ابوحبيب يكتب: دليل العبودية الخالصة

“وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِله” [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 165] .
لا شكّ أنّ الحبَّ هو أسمى شيء في الوجود، وهو على درجات، أوله الهوى وآخره الهُيام، وما بينهما شغف، وجد، كَلَف، عشق، شوق، ود، خلّة، وغرام.
وهو جذر الحياة وأساسها، به تتم نعمتها ويكمل نعيمها، وهو الباعث على كل عمل حقًّا كان أو باطلًا، به يبلغ الطالب، ومعه يصل السالك.
من لم يذقه لم يذق للحياة لذة، ومن لم يعرفه كان ميتًا في صورة حي، وحيوانًا في شكل إنسان، فهو ميت حي، وحي ميت، ورحم الله المتنبي إذ يقول:
وَعَذَلتُ أَهلَ العِشقِ حَتّى ذُقتُهُ * فَعَجِبتُ كَيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرتُهُم وَعَرَفتُ ذَنبِيَ أَنَّني * عَيَّرتُهُم فَلَقيتُ فيهِ ما لَقوا.
فكان عجبه من موت من لم يعشق، إذ كيف يموت الميّت؟!!!. فلا يموت إلا الحي.
ومن ثَمّ عدّ العقلاء من لم يعشق ولم يذق طعم الهوى ليس من جملة البشر، ذكر ابن القيم في كتابه الداء والدواء: أنه قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ: إِنَّ ابْنَكَ قَدْ عَشِقَ فُلَانَةً، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِله الَّذِي صَيَّرَهُ إِلَى طَبْعِ الْآدَمِيِّ.
كما عدّوه مريضًا يحتاج إلى علاج، وجلفًا ليس له مزاج، ومن هنا كان محرومًا من أطيب شيء في الحياة، فقالوا: مَنْ لَمْ يُهَيِّجْ نَفْسَهُ بِالصَّوْتِ الشَّجِيِّ، وَالْوَجْهِ الْبَهِيِّ، فَهُوَ فَاسِدُ الْمِزَاجِ، يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجٍ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى * فَمَا لَكَ فِي طِيبِ الْحَيَاةِ نَصِيبُ.
ليس هذا وحسب بل عدّوه من جملة البهائم، فأنشدوا:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى * فَأَنْتَ وَعِيرٌ فِي الْفَلَاةِ سَوَاءُ.
أيضًا قالوا:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى * فَقُمْ فَاعْتَلِفْ تِبْنًا فَأَنْتَ حِمَار
وما ذاك إلا لأن الحبَّ يزيد في العقول، ويُحرّك همّة الكسول، ويقي شرّ الخُمول، به تزكوا النفوس، وله تطرب الأرواح، ومعه تكتمل الأفراح، فكم من خامل رفعه الحبّ إلى منازل الشجعان، حتى تناقلت سيرته الركبان، وصار حديثه حديث الندامى، ولولا عشقه ما ذكر له اسم، ولا جرى له رسم، فهل كان قيس لِيُعرف لولا حبّه ليلى، أم كان كُثَير لِيُشتهر لولا عشقه عزّة، ولو ذُكرت أسماؤهما دون ليلى وعزّة هل سيعرفهما أحد؟، فلو ذكر اسم: قيس بن الملوح العامري، أو اسم: كثير بن عبد الرحمن الخزاعي، فهل يستدل عليهما أحد؟، إلا القليل، وغيرهما ممن رفعه العشق وسما به الحب كُثُر.
ولا شيء يسمو بالأخلاق، ويرفع الهمّة، ويحمل على مكارم الأخلاق كما العشق، فإنّ العاشق يبذل قصارى جهده ليرتفع في عين معشوقه، يُحكي: أن الملك بهرام جور كان له ولد واحد، فأراد ترشيحه للملك بعده، فوجده ساقط الهمة دنيء النفس فسلّط عليه الجواري، فعشق منهن واحدة، فأعلم الملك بهرام بذلك ففرح وأرسل إليها أن تمنّعي عليه وقولي له: إني لا أصلح إلا لشريف النفس عالي الهمّة، وأنت خامل كسول، فلا أنت بملك أو عالم. فلما قالت له ذلك اجتهد وراجع العلم وتخلّق بأخلاق الملوك حتى برع في ذلك، فتولّى الملك فكان من خيرهم. كلّ ذلك كان إرضاءً لمحبوبته، وفي مثل هذا يقول الشاعر:
سَيَهْلِكُ فِي الدُّنْيَا شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ * إِذَا غَالَهُ مِنْ حَادِثِ الْحُبِّ غَائِلُهُ
كَرِيمٌ يُمِيتُ السِّرَّ حَتَّى كَأَنَّهُ * إِذَا اسْتَفْهَمُوهُ عَنْ حَدِيثِكَ جَاهِلُهُ
يَوَدُّ بِأَنْ يُمْسِيَ سَقِيمًا لَعَلَّهَا * إِذَا سَمِعَتْ عَنْهُ بِشَكْوَى تُرَاسِلُهُ
وَيَهْتَزُّ لِلْمَعْرُوفِ فِي طَلَبِ الْعُلَا * لِتُحْمَدَ يَوْمًا عِنْدَ لَيْلَى شَمَائِلُهُ.
هذا، وإن أشرف الحبّ وأطهره بالطبع حبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحبُّ لهما، والحبُّ فيهما، فهو أصل كل حبٍّ محمود، وهو ما يُطلق عليه العشق الإلهي، به يكمل الإيمان.
وفي القول الكريم الذي استهللنا به مقالنا هذا يصف الله تعالى المؤمنين بأنَّ حبّهم لله أشدّ حبًّا من حبّ المشركين لأندادهم، وهذا هو علامة الإيمان الكامل ودليل العبودية الخالصة، وهو ما أكّد عليه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله: “لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَهْلِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَذَاتِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ ذَاتِهِ”. [رواه الطبراني في المعجم الكبير].
وقد كان على رأس المحبين لله تعالى سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي علّمنا كيف تكون المحبّة لله تعالى، فقد كان لفرط حبّه لمولاه يقوم بين يديه مناجيًا حتى تتفطر قدماه، ويسجد له فيطيل السجود حتى ليُظن به أنّه فارق الحياة، وسار على دربه أصحابه فكانوا لربٌهم محبّين ولنبيّهم عاشقين، حتى بلغ بهم عشقهم لنبيّهم أنّهم ما كانوا يخشون الموت إلا لخوفهم من فراقه إذ كانوا يعتقدون أنهم وإن دخلوا الجنة فإن منزلتهم ستكون دون منزلته، روى الطبراني في معجمه: “عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، وَالله إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ، فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ، فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي ومَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَرَاكَ. فَلَمْ يُرِدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَّلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَنْ يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69]
وعلى دربهم صار التابعون وتابعوهم على محبّتهم لربّهم وعشقهم لنبيّهم، وتعتبر السيدة رابعة العدوية [180 / 801م] هي أول من أسست لمفهوم العشق الإلهي الخالص، حيث كانت تنشد:
أحبّك حُبين حبّ الهوى * وحبّا لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حُبّ الهوى * فشُغلي بذكرِك عمّن سواكا
وأما الذي أنتَ أهلٌ له * فكشفُك للحُجب حتى أراكا
ثم يأتي أبو منصور الحّلاج [309 / 922م] الذي هام بحبّ ربّه حتى فني فيه فناءً كاملًا، ومن شعره:
عجبتُ منك و منـّـي * يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي
أدنيتـَني منك حتـّـى * ظننتُ أنـّك أنـّــي
وغبتُ في الوجد حتـّى * أفنيتنـَي بك عنـّــي
يا نعمتي في حياتــي * وراحتي بعد دفنـــي
ما لي بغيرك أُنــسٌ من * حيث خوفي وأمنـي
ومن بعدهما أتى ابن الفارض [632 / 1235م] الذي استطاع من خلال شعره أن يصف حقيقة الفناء في محبة الذات الإلهية والحقيقة المحمدية حتى لُقّب بسلطان العاشقين، ومن كلامه في المحبة:
زِدْني بفَرْطِ الحُبّ فيك تَحَيّرا * وارْحَمْ حشىً بلَظَى هواكَ تسعّرا
وإذا سألُتكَ أن أراكَ حقيقةً * فاسمَحْ ولا تجعلْ جوابي لن تَرى
يا قلبُ أنتَ وعدَتني في حُبّهمْ * صَبراً فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا
إنَّ الغرامَ هوَ الحياةُ فمُتْ بِهِ * صَبّاً فحقّك أن تَموتَ وتُعذرا
قُل لِلّذِينَ تقدَّموا قَبلي ومَن * بَعدي ومَن أضحى لأشجاني يَرَى
عني خذوا وبي اقْتدوا وليَ اسمعوا * وتحدّثوا بصَبابتي بَينَ الوَرى
ولقد خَلَوْتُ مع الحَبيب وبَيْنَنَا * سِرٌّ أرَقّ منَ النسيمِ إذا سرى
وأباحَ طَرْفِي نَظْرْةً أمّلْتُها * فَغَدَوْتُ معروفاً وكُنْتُ مُنَكَّرا
فَدُهِشْتُ بينَ جمالِهِ وجَلالِهِ * وغدا لسانُ الحال عنّي مُخْبِرا
فأَدِرْ لِحَاظَكَ في محاسنِ وجْهه * تَلْقَى جميعَ الحُسْنِ فيه مُصَوَّرا
لو أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورةً * ورآهُ كان مُهَلِّلاً ومُكَبِّرا
وعلى دربهم جاء جلال الدين الرومي [672 / 1273م] الذي يُعد أيقونة العشق، معبّرًا عن الصفاء الروحاني الذي لا يمكن أن يكون إلا إذا مُلئ القلب بمحبّة الله تعالى، ومن أقواله مخاطبًا القلب: “أيّها القلب، لماذا أنت أسيرٌ لهذا الهيكل الترابي الزائل، ألا فلتنطلق خارج تلك الحظيرة، فإنك طائر من عالم الروح، إنك رفيق خلوة الدلال، والمقيم وراء ستر الأسرار، فكيف تجعل مقامك في هذا القرار الفاني، أنظر إلى حالك واخرج منها وارتحل من حبس عالم الصورة إلى مروج عالم المعاني، إنك طائر العالم القدسيّ، نديم المجلس الأنسي، فمن الحيف أن تظل باقيًا في هذا المقام”، وكان يقول: “كنت أسمع اسمي ولا أرى نفسي، كنت منشغلًا بنفسي، لكني أبدًا لم أكن مستحقًا لها، وحين كان وخرجت من نفسي وجدت نفسي.
د. حسني ابوحبيب يكتب: دليل العبودية الخالصة








