الدكتور أحمد درويش يكتب : إشكالية التوسع التركى وعودة مصر لمكانتها
عقب ثورة 25 يناير 2011م كان إتجاه المجهود الرئيسى لدى تركيا نحو مصر هو عملية دعم تمكين تنظيم الأخوان المسلمين من حكم مصر ، حيث تلتقى أطماع التوسع والهيمنة التركية بمشروعها الطائفى ، والمشروع الثيوقراطى الأممى الذى يتبناه تنظيم الأخوان الذى ينتمى لنفس الفضاء الأيديولوجى الإسلامى السياسى الذى تنتمى له نخبة حزب العدالة والتنمية فى تركيا ، بالمباركة الأمريكية برعاية الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما .
ولم يكن دعم تركيا للإخوان ناتج عن تلاقى مشروعهما ومباركة الولايات المتحدة الأمريكية فقط ، بل هو أيضاً عرفاناً ورداً للجميل لعناصر تنظيم الإخوان المسلمين ، حيث سبق لجماعات الإخوان المسلمين التى تمركزت فى منطقة الخليج العربى منذ سبعينيات القرن العشرين ، ونتيجة لتماثل الجذور الفكرية والأيديولوجية ، أن دعمت تيار الإسلام السياسى التركى حتى تمكن من تشكيل حكومة إئتلافية ذات نزعة إسلامية عام 1996م .
ثم استمرت جماعات الإخوان فى خدمة تمدد النفوذ التركى بأبعاده المختلفة سياسياً واقتصادياً وليس فقط أيديولوجياً وفكرياً ، وشملت هذه الخدمات الدوائر العربية ، وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية .
وبعد فشل عملية الدعم التركى لتمكين تنظيم الإخوان المسلمين من حكم مصر فى 30 يونيو 2013م بأطاحة الشعب المصرى لحكم التنظيم ، خسرت تركيا أحد أهم أركان تعزيز نفوذها الإقليمى ، مما يفسر الإنحياز التام لدى عناصر تنظيم الإخوان حتى الباقى منهم فى مصر لكل ما هو تركى ، ومن ثم تحول الموقف التركى إلى العدائية الشديدة تجاه مصر واتخذ مظاهر عديدة مثل :
1- حملات إعلامية ممنهجة ضد مصر ، يوجه بعضها للداخل المصرى ، وبعضها
للرأى العام العالمى .
2- إحتضان تنظيم الإخوان المسلمين ومنحهم حرية العمل ضد مصالح مصر و
أمنها .
3- التعاون مع تنظيم داعش الذى يسعى للوصول لمجال مصر الحيوى وتهديدها .
4- بناء تحالفات إقليمية معادية لمصر .
5- محاولة حصار المجال الحيوى لمصر وتهديد مصالحها وأمنها القومى .
إلا أن العداء التركى الحاد لمصر لا يتوقف تفسيره فقط عند العلاقات التركية بتنظيم الإخوان ، فيحضرنا أيضاً رغبة تركيا فى نزعة الهيمنة على الجوار العربى والتى ظلت حاضرة عقب سقوط الخلافة العثمانية فى 1923م ، ومحاولة الهيمنة على بلاد الشام عام 1955م من خلال حلف بغداد ، الذى فشل نتيجة المعارضة المصرية ، وصعود القومية العربية ، والوحدة المصرية السورية التى لحقت بها العراق بعد سقوط النظام الملكى فى 1958م ، بالإضافة لتقارب الإتحاد السوفيتى آن ذاك من مصر وسوريا والعراق .
ثم التصعيد العسكرى التركى ضد سوريا عام 1957م لإسقاط الحكومة السورية لتقاربها من الإتحاد السوفيتى ، لولا إرسال قوات مصرية تساند مجابهة الحشود التركية على الحدود السورية .
ثم تأتى بعد ذلك المحاولة المستميتة لتركيا فى السيطرة على الموارد المائية لكل من سوريا والعراق وخنقهما مائياً ، فيما يعرف بمشروعات جنوب شرق الأناضول ، والتى لاتزال مستمرة حتى اليوم منذ السبعينيات ولا سيما بعد الفراغ السياسى والضعف الكبير الذى أصاب الدولتين .
وفى عام 1998م حشدت تركيا قواتها مرة أخرى مهددة بالتدخل فى سوريا لمواجهة نشاط حزب العمل الكردستانى الإنفصالى ، وبعد وساطة مصرية مكوكية إنتهت الأزمة .
وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001م ، شهدت الساحة الدولية أربعة تغيرات كبرى حفزت تركيا على تبنى سياسات إقليمية فاعلة ، ولا سيما بعدما تواكبت تلك الفترة مع صعود حزب العدالة والتنمية عام 2002م للحكم فى تركيا ، ويمكن إجمال هذه التغيرات فى الآتى:
1- بروز ظاهرة الإسلام السياسى فى السياسة الخارجية الأمريكية ، والتوهم
الأمريكى الأوروبى بأنه قد يقدم نموذج لحكم معتدل .
2- الغزو الأمريكى للعراق عام 2003م ، والذى سمح لتركيا بتبنى سياسات
تدخلية فى العراق لردع أى تطلعات إنفصالية فى إقليم كردستان العراق ، مما
حول نظر عدد من دول الخليج إلى تركيا كطرف موازن لإيران إقليمياً ، بعد
خروج العراق من معادلة توازن القوى وسقوطة فى شباك هيمنة النفوذ الإيرانى.
3- مسعى تركيا للإلتحاق بالإتحاد الأوروبى خاصة بعد إعلان المجلس الأوروبى
فى كوبنهاجن عام 2002م ، للنظر فى إستيفاء تركيا لمعايير الإلتحاق بالإتحاد
الأوروبى ، وبدأت مفاوضات الإنضمام بالفعل فى 2005م ، مما زاد بشدة من
طموح تركيا وزادت بالتالى من نفوذها على الجوار بأمل أن يعززها ذلك فى
مفاوضات الإنضمام للإتحاد الأوروبى .
4- صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم ، الذى رأت نخبته الفرصة فى
تعزيز حضور النفوذ التركى فى المنطقة فى ظل التحولات الهيكلية ، وذلك
بتغلغل قوتها الناعمة عبر النظم الإقليمية وليس بالتصادم معها .
وحين بدأت أحداث الربيع العربى أواخر عام 2010م ، أغرت حالة السيولة التى أصابت الدول العربية ، وعوامل التفكك التى تجلت فى بنيان أكثر من دولة عربية ، تركيا بمحاولة تحقيق أطماعها فى مد نفوذها ، واحتلال أجزاء من سوريا والعراق ، وفرض نفسها كقوة إقليمية مهيمنة ليس من خلال التغلغل الناعم ، بل بالقوة الخشنة ، والإعتداء على سيادة دول المنطقة حتى الذين أقامت معهم صداقة وثيقة مثل ليبيا وسوريا ، مستغلة لجميع الأدوات المتاحة لذلك من نشاطات تنظيم الإخوان ، للإستخدام الوظيفى للتنظيمات الإرهابية بهدف الإستنزاف وتهديد الأمن ، فضلاً عن طرح نفسها كشريك لكل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية فى عملياتهما العسكرية وفرض النفوذ والهيمنة فى المنطقة .
وعقب تولى الدكتور محمد مرسى حكم مصر زار تركيا واجتمع بحزب العدالة والتنمية التركى، وأكد خلال الإجتماع وحدته هو وتنظيم الإخوان مع حزب العدالة والتنمية ، وبناءاً على هذا سعت تركيا لشراكة وتحالف تركى مصرى بتوقيع عددا كبيرا من الإتفاقيات التجارية والملاحية ، التى سهلت وصول تجارة تركيا إلى البحر الأحمر والخليج العربى .
وهنا يجب ألا يفوتنا ذكر مقترح ترسيم الحدود البحرية بين مصر وتركيا ، الذى قدمته تركيا وفقاً لوجهة نظرها المخالفة لقواعد القانون الدولى ، ورغم موافقة تنظيم الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة فى ذلك الوقت على المقترح التركى ، فقد رفضت وزارة الدفاع المصرية هذا المقترح فى حينها نظراً لما يمثله من اعتداء على حدود اليونان وقبرص البحرية ، فضلاً عن إدعاءه بتبعية أجزاء من مناطق الإمتياز المصرية لتركيا ، فما كان من تنظيم الإخوان فى مصر سوى أنه رأس حربة تم إستخدامها بواسطة تركيا لتحقيق الأطماع التركية .
وحين أطاحت 30 يونيو 2013م بحكم الإخوان ، تحطمت تلك الأمال العريضة فى قلوب العدالة والتنمية التركى ، وانقلبت الصداقة مع مصر لحالة من العداء المفتوح ليس فقط لتحطيم أحلام الهيمنة التركية ، ولكن لصعود نظام مصرى جديد يتبنى إعادة بناء قوة الدولة المصرية ، فبات الحكم الجديد فى مصر تحدياً للنفوذ والهيمنة التركية .
وفى مقابل العداء التركى الشديد لمصر، تحاول مصر ردع التهديدات التركية واحتواء الخطر بإستراتيجية تشمل العناصر التالية:
1- بناء قوة عسكرية مصرية رادعة بعيدة المدى .
2- إرساء أنظمة قانونية تحد من أطماع تركيا ، مثل إتفاقات ترسيم الحدود
البحرية ومنتدى غاز شرق المتوسط .
3- بناء محاور أمنية فى الإتجاهات المختلفة سواء الإتجاه الشرقى مع كل من
المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ، أو شمالا مع قبرص
واليونان ، بقدرما يمكن تحويل هذه المحاور لتحالف عسكرى شامل إذا ما
اقتضت الضرورة .
4- تطوير سياسات ثقافية تقوض الترويج التركى لوعى تاريخى ممنهج ضمن
سياساتها الناعمة
وتكمن إشكالية التوسع التركى وعودة مصر لمكانتها ، إلى الصراع على المكانة بين البلدين ويشهد التاريخ على هذا الصراع فى لحظات تاريخية عديدة ، ومن غير المتوقع أنه سيتم حسم تلك المواجهة فى وقت قريب لإستمرار ذلك النزيف الإقليمى وحالة السيولة خاصة فى سوريا والعراق وليبيا ، وأيضاً حالة التعارض فى المصالح الإقليمية بين القوى الكبرى والتى تلعب تركيا على حبال تناقضاتها .