يظل التاريخ هو أكبر معلم ،وتظل نتائج أحداثه هي الحقائق التي لا تحتمل الشك أو الجدل ، فقد علمنا هذا السيد العجوز “التاريخ” أن جميع الإمبراطوريات العظمى على مر الزمن تكبر ويمتد نفوذها وتنتشر في كل أنحاء الدنيا لكنها سرعان ماتختفي وتتلاشى وتحل محلها إمبراطوريات أخرى ،وأنه دائماً ماتنتهي هذه الإمبراطوريات نتيجة معاناة الشعوب،فمن رحم المعاناة تولد الثورات ،وكثيرا ما تتغير الأنظمة والسياسات والنظريات وتحل محلها أنظمة ونظريات أخرى نتيجة القهر والظلم والإستبداد .
فقد ظلت الإمبراطورية البريطانية تحتل العالم وتبسط نفوذها حتى أطلق عليها الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس لعقود طويلة ثم سرعان ما اختفت بلا رجعة وحلت مكانها إمبراطورية جديدة نتيجة ظلم وإستبداد الإقطاعيين ونتيجة الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تعرضت لها الشعوب لينشأ نظام عالمي جديد قائم على التوازن نتيجة وجود قطبين كبيرين متعادلين إلى حد كبير في القوى العسكرية والتحالفات والنفوذ والهيمنة بينهما صراع عميق وصف بالحرب الباردة .
القطب الأول يمثل الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت تزاحم الدول العظمى وتتصدر المشهد تدريجيا بعد إنهيار الإمبراطورية البريطانية ، القطب الثاني يمثل الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتي الذى زاد نفوذه وهيمنته نتيجة الثورة الإشتراكية التي قامت ضد الإقطاعيين وضد الظلم الإجتماعي عام١٩١٧متأثرا بالنظريات الفلسفية لكل من ماركوس و لينين اللذان رفعا شعار الكفاية والعدل.
كانت الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى عام١٩٢٩التي طالت كل دول العالم سببا رئيسياً في إشتعال الحرب العالمية الثانية .
كانت أيضاً سبباً رئيسياً في ظهور القطبين ، الشرقي ،والغربي حتى أصبحا أكبر قوتين عظمتين في العالم.
بعد خروج الإمبراطورية البريطانية من المشهد وضعف نفوذها ومن ثم تكونت أحلاف تتبع الكتلة الشرقية وأخرى تتبع الكتلة الغربية واتسعت حالة الإستقطاب والمنافسة بينهما وحدث توازن تلقائي في العالم ساهم في إنتعاش إقتصاديات بعض دول العالم الثالث وإعتمادها على سواعد أبناءها وصناعتها الوطنية بنسبة كبيرة، إلا أن هذا النموذج من النظام العالمي لم يستمر طويلاً حيث تفكك الإتحاد السوفيتي وتلاشى على يد غورباتشوف الذي أعلن وفاته عام١٩٩٠ ليفسح المجال للولايات المتحدة الأمريكية لتفرض نفوذها وهيمنتها على العالم كله .
ويصبح العالم يحكمه قطب واحد قائم على فكرة نظام اقتصادي رأسمالي يعتمد على الملكية الخاصة للأفراد لوسائل الإنتاج وخلق السلع والخدمات من أجل تحقيق الأرباح ، ينقسم فيه المجتمع إلى قسمين أساسيين، الأول يشمل الطبقة البرجوازية وهم أصحاب رؤوس الأموال الذين يسيطرون على الثروة والسلطة داخل المجتمع ، والثاني يشمل طبقة البروليتاريا وهم العمال الذين يقع عليهم مسؤولية تعظيم الربح وتكديس الثروات لدى حفنة قليلة من المجتمع هم طبقة رجال الأعمال أو ما يطلق عليهم الرأسماليين .
كان أصحاب هذه النظرية ينادون بالتخلي عن النظام الإشتراكي أثناء وجود الإتحاد السوفييتي وذلك حتى تنعم شعوب العالم حسب “زعمهم” بالحرية اللا نهائية وبالحياة الكريمة متفائلين بمبدأ الفيلسوف الإقتصادي الأمريكي “آدم سميث ” قبل ثلاثة قرون من الزمن وهو (دعه يعمل ، دعه يمر)أي أنه من حق أي شخص أن يفعل ما يريد دون قيود ودون أي تدخل من جانب الدولة .
ظلت فكرة تخلي الدولة عن مسؤولياتها تسيطر على عقول الأنظمة التي آمنت بالنموذج الأمريكي والأوروبي واعتبرته نموذجاً ناجحاً يمكنه الإستمرار إلى أن تقوم الساعة لتتطابق مع مقولة المفكر الأمريكي الذي يعد أحد أهم مفكري تيار المحافظين الجدد في أمريكا الياباني الأصل “فرنسيس فوكاياما” وهي (أن التاريخ سيشهد إنتصارا للرأسمالية إلى الأبد) ، إلا أن الواقع كان مغايرا تماماً لكل هذه النظريات والتأملات حيث أكدت التجارب أن الأنظمة الرأسمالية الإمبريالية جاءت لتمتص دماء الشعوب .
ظل هذا النظام الانتهازي يرفع شعارات كاذبة عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في الوقت الذي نزع من قاموس مبادئه ومفردات تعاملاته كل معاني الإنسانية التي كان يتشدق بها وتلطخت يداه بالدماء في كل مكان وزمان ، فهو الذي نشر الطاعون وأباد عشرات الملايين من الهنود الحمر واستخدم القنابل النووية المحرمة دولياً في اليابان ودمر بلاد الرافدين تحت دعاوى كاذبة بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل بعد أن أصبح العراق قوة لايستهان بها تهدد طموحاته وتهدد أمن ربيبته إسرائيل فتصدرت فضائح مشاهد وأخبار التعذيب الوحشي في سجن أبو غريب وجوانتنامو لشعب الرافدين كل الصحف ووسائل الإعلام .
لن تنسي الشعوب تلك الأحداث التي كانت مقدمات وبدايات للتمرد على هذا النظام الرأسمالي الوحشي اللا إنساني الذي لا يعنيه حياة وكرامة الإنسان .
لم يعد هذا النظام العالمي يلقى رضا وقبول الشعوب ، خاصة تلك التي طالها البطش والإستبداد أو تعرضت للحصار أو التركيع في إنتظار معجزة إلهية تخلصهم من هذا النظام العالمي العفن الذي يملك أكبر ترسانة أسلحة .
يبدو أن إرادة الله شاءت أن تمنح الشعوب المقهورة التي تبحث عن الحرية الحقيقية وعن حقوق الإنسان بمعناها الفعلي والعدالة الإجتماعية التي لم يذوقوا طعمها منذ أن تربعت أمريكا على قمة الهرم الأمل والحق في الحياة ، فظهور جائحة كورونا (كوفيد١٩)كأنه جاء لينال من هذا النظام الإنتهازي ويفضح ممارساته ويفتح الباب أمام التغيير وظهور نظام عالمي جديد بعد أن كشفت هشاشة وفشل أمريكا وحلفائها في مواجهته وزيف صدقها في حقيقة الشعارات التي رفعهتا وظلت تنادي بها منذ الحرب الباردة وحتى الآن فكانت كلمات دونالد ترامب رئيس أمريكا زعيمة الرأسمالية في بداية كارثة إنتشار الكورونا شاهدة على كذب هذا النظام الإمبريالي عندما قال لشعبه”إنتظروا أياماً سوداء خلال الأسبوعين القادمين”.
وجاءت كلمات بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا أكبر حليف لأمريكا أكثر سوءاً عندما قال لشعبه”الأسوء في كورونا لم يبدأ بعد، إستعدوا لفقد أحبابكم” ولم يكلف أي منهما نفسه لتأمين المواطنين الذين يدفعون الضرائب ويسقطون بالآلاف وأكثرهم من المسنين فضلاً عن عدم توفير مستلزمات الرعاية الصحية ولم يعد مستغرباً أن تتحول هذه الأنظمة لقطاع طرق وقراصنة لمواجهة هذا الڤيروس الذي لا يرى بالعين المجردة.
ولم يعد مستغرباً أن يدفع دونالد ترامب ثلاثة أضعاف قيمة ما ستدفعه فرنسا للصين مقابل الحصول على صفقة كمامات تعاقدت عليها فرنسا.
وبنفس الطريقة ولغة البلطجة إستولت فرنسا حليفة أمريكا على شحنة كمامات قادمة من الصين لكل من إيطاليا وإسبانيا عند نزولها ترانزيت إلى مطار فرنسا وبنفس الطريقة إستولى مولانا أردو خان خليفة المسلمين والإخوان الشياطين على ١٦٢جهاز تنفس صناعي قادمة من الصين إلى إسبانيا .
تلك هي قيم ومبادئ زعيمة الرأسمالية العالمية وحلفائها وسيسجل التاريخ أن أمريكا تخلت عن حلفائها الأوروبيين ولم يحرك دونالد ترامب ساكناً أمام نداءات وإستغاثات الرئيس الإيطالي والرئيس الصربي رغم أن بلديهما عضوان في حلف الناتو ، ناهيك عن إصراره عدم رفع الحصار المفروض على إيران لدخول المساعدات الطبية في ظل سقوط الآلاف بين موتي ومصابين .
على النقيض كان موقف المعسكر الإشتراكي إنساني إلى أقصى درجة حيث أرسلت الصين بعثة من أعظم الأطباء إلى إيطاليا ودعمتها بالمستلزمات الطبية والأدوية ودعمت صربيا وأسبانيا وإيران وغيرهم من دول حلف الناتو ولم تفرق بين أصدقائها وأعدائها مثلما فعلت مصر ومثلما جاءت توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي .
أما الدب الروسي فكان هو الآخر يحمل الخير إلى الدول التي تعرضت للكارثه وظل الموقف الإنساني للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أمر جنوده أن يقوموا بحملة تطهير واسعة النطاق داخل الأراضي والمطارات والمنشآت الإيطالية للحفاظ على أرواح المواطنين.
لم تكن تلك المشاهد والمواقف وحدها هي التي فضحت الأنظمة الرأسمالية المتوحشة بل أن ماقامت به هذه الأنظمة بنفسها ينزع الأقنعه من على وجوهها ويؤكد إنتهازيتها وإستغلالها لشعوب العالم من أجل أن تحقق أهدافها فقد لجأت هذه الدول إلى تأميم العديد من المؤسسات من ضمنها البنوك والمصارف و بعض المؤسسات الصناعية لعلاج الأزمة وقامت إسبانيا بالسيطرة على المؤسسات والشركات الخاصة التي تعمل بمجال الرعاية الصحية وأعلنت حكومتها أنه لن يتم تحصيل أي مستحقات مالية متأخره، وأنه لن يتم قطع المرافق عن المنشآت.
وعلى الجانب الآخر فرضت الإدارة الأمريكية ضرائب إضافية على الأغنياء إلى جانب قرارات التأميم السابق ذكرها وتقدم مجموعه من البرلمانيين بإقتراحات تضمن وجود تشريعات تضع حدا أدنى لدخل المواطنين وإعادة صرف إعانة البطالة التي ألغيت من قبل بل أن وزير مالية فرنسا أشار في حديثه على الهواء بإحدى الفضائيات مخاطباً شعبه”يمكن للدولة أن تشرع في تأميم بعض المؤسسات إذا لزم الأمر”.
النظام الرأسمالي العالمي ليس له مبدأ أخلاقي ، ولا أمان له ، يطلق سهامه وإتهاماته إلى النظام الإشتراكي متمردا على قرارات التأميم وتدخل الدولة في العملية الإقتصادية لكنه يفعل ذلك كلماتعرض لمحنة باعتبار أن هذا الإجراء يعد علاجاً فورياً للأزمة.
إنها الإزدواجية والإنتهازية بعينها ودائماً تتوافق وتتشابه سلوكيات الرأسماليين في كل أنحاء العالم رغم أختلاف طبيعة عمل مؤسساتهم وتجاراتهم و قيمة مدخراتهم وثرواتهم المالية فمثلما تحتكر الشركات الكبرى سلعة أوصناعة معينة ومن ثم تتحكم فى سعرها تجد صغار الرأسماليين والتجار يحتكرون سلع معينة ويستغلون الأزمات لتخزين السلع وتعطيش السوق لتعظيم أرباحهم على حساب الفقراء وعلى حساب طبقة البروليتاريا.
الوجه القبيح للرأسمالية المتوحشة يجعلنا نقبل بالرأي الذي يقول أن أمريكا هي من صنعت هذا الوباء وهي من أطلقته لتدمير العالم خاصة أن كثيراً من المهتمين بهذا المجال في العالم يؤكدون أن إنتشار الكورونا بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية وليس من “ووهان”الصينية.
نعود ونذكر أن كل الثورات تولد من رحم المعاناة وأن تغيير الأنظمة العالمية يحدث نتيجة ظهور أزمات إقتصادية طاحنة وبالتالي فإن ماسببه كورونا للعالم من أزمات إقتصادية هائلة في وقت وجيز ينذر بميلاد نظام عالمي جديد .
قد يكون كورونا هدية السماء للشعوب الفقيرة، المقهورة التي تبحث عن حقها في الحياة وقد تكون على موعد مع القدر الذى يختزن لهم نظاماً عالمياً جديداً يحترم الإنسان ويقدر جهوده ويضمن حريته ويصون كرامته.