شاءت حكمة الله تعالى أن يشتمل ديننا الحنيف على دقائق ولطائف جلّت على كثير من الأفهام أن تصل إلى كنهها أو حتى تقترب من مرادها ، ولا يقف أحد على دقائقها إلا من رزقه الله رسوخاً في العلم “وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم” (آل عمران: 7)، وتقوى في القلب ، ونفاذاً في البصيرة .
وبالطبع لن ينال أحد رسوخا في العلم إلا بعد أن يُرزق التقوى “واتقوا الله ويعلمكم الله” (البقرة: 282) ، والتقوى بالطبع لا تكون إلا نتيجة لطاعات قُدّمت على وجهها الصحيح ، فإذا قدّم العامل طاعة أحدثت في قلبه نوراً ، وكلما زادت الطاعات كلما تراكمت الأنوار ، ومتى تراكمت الأنوار في قلب المؤمن كُشفت عنه الحجب فيرى ما لا يقدر على رؤيته غيره ، ويسمع ما لا يستطيع سماعه من سواه ، ولا غرو في ذلك ولا عجب فهو لا يرى ولا يسمع إلا بالله ،
ولعل هذا هو معنى الحديث القدسي الذي يقول الله تعالى فيه: “… ﻭما تقرب إلي عبدي ﺑﺸﻲء ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻲ ﻣﻤﺎ اﻓﺘﺮﺿﺖ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻣﺎ ﻳﺰاﻝ ﻋﺒﺪﻱ ﻳﺘﻘﺮﺏ ﺇﻟﻲ ﺑﺎﻟﻨﻮاﻓﻞ ﺣﺘﻰ ﺃﺣﺒﻪ، ﻓﺈﺫا ﺃﺣﺒﺒﺘﻪ: ﻛﻨﺖ ﺳﻤﻌﻪ اﻟﺬﻱ ﻳﺴﻤﻊ ﺑﻪ، ﻭﺑﺼﺮﻩ اﻟﺬﻱ ﻳﺒﺼﺮ ﺑﻪ، ﻭﻳﺪﻩ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﻄﺶ ﺑﻬﺎ، ﻭﺭﺟﻠﻪ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺸﻲ ﺑﻬﺎ، ﻭﺇﻥ ﺳﺄﻟﻨﻲ ﻷﻋﻄﻴﻨﻪ، ﻭﻟﺌﻦ اﺳﺘﻌﺎﺫﻧﻲ ﻷﻋﻴﺬﻧﻪ…”.
فإبصاره وسمعه لما عجز عنه غيره ما هو إلا ثمرة لطاعته وتبتله ، من هنا كان التشبيه النبوي البليغ لمجموعة من الطاعات بالنور والبرهان والضياء ، ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “…ﻭاﻟﺼﻼﺓ ﻧﻮﺭ، ﻭاﻟﺼﺪﻗﺔ ﺑﺮﻫﺎﻥ، ﻭاﻟﺼﺒﺮ ﺿﻴﺎء…”. فارتباط تلك الطاعات بكل أنواع الإضاءة يؤكد على أن العلم النافع (لصاحبه وغيره) الذي يورث البصيرة النافذة إنما هو نتيجة للطاعات.
ﻭﻳﺘﻔﻖ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻠﻐﺔ على ﺃﻥ اﻟﻀﻴﺎء ﺃﻗﻮﻯ ﻭﺃﺷﺪ ﻣﻦ ﻣﺠﺮﺩ اﻟﻨﻮﺭ، ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: اﻟﻨﻮﺭ ﺇﺿﺎءﺓ ﺑﻼ ﺣﺮاﺭﺓ، ﻭاﻟﻀﻴﺎء ﻧﻮﺭ ﻣﻊ ﺷﺪﺓ ﺣﺮاﺭﺓ، ﻭاﻟﺒﺮﻫﺎﻥ ﻫﻮ اﻟﺸﻌﺎﻉ اﻟﺬﻱ ﻳﻜﻮﻥ ﺃﻣﺎﻡ ﺿﻮء اﻟﺸﻤﺲ.
إذن ﻫﺬﻩ اﻟﺜﻼﺛﺔ: (ﻧﻮﺭ- ﺿﻴﺎء- ﺑﺮﻫﺎﻥ) ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﺨﻂ اﻹﺿﺎءﺓ، ﺇﻻ ﺃﻥ اﻟﻨﻮﺭ ﻓﻴﻪ ﺿﻴﺎء ﻣﻊ ﻫﺪﻭء، ﻭﻟﻴﺲ ﻓﻴﻪ ﺣﺮاﺭﺓ، ﻭاﻟﺒﺮﻫﺎﻥ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﺃﺷﻌﺔ اﻟﺸﻤﺲ، ﻭاﻟﻀﻴﺎء ﻧﻮﺭ ﻣﻊ ﺷﺪﺓ ﺣﺮاﺭﺓ.
لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ﺇﺫا ﻫﻤﻪ ﺃﻣﺮ أو التبس عليه ﻓﺰﻉ ﺇﻟﻰ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﺄﻧﺎﺭ اﻟﻠﻪ ﻗﻠﺒﻪ ﻭﺑﺼﻴﺮﺗﻪ، ﻭﺷﺮﺡ ﺻﺪﺭﻩ، ﻭﻳﺴﺮ ﺃﻣﺮﻩ.
وبعد ، فنحن نعيش آيات ودلائل وبراهين. وقف الناس حيالها على ضربين:
الضرب الأول وهم أصحاب البصائر الذين أنار الله قلوبهم بطاعته ، فعلموا أنها داعية الله لعباده ونذيره لعبيده ، فأخذتهم إليه أخذاً ، فزاد إيمانهم بصاحب الملك والملكوت ، ونمى يقينهم بذي الحول والطول ، وزكى شعورهم بعجزهم أمام قدرة القادر المقتدر ، “ﻓﺄﻣﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﺁﻣﻨﻮا فزاتهم ﺇﻳﻤﺎﻧﺎ ﻭﻫﻢ ﻳﺴﺘﺒﺸﺮﻭﻥ” (التوبة: 124). فلاذوا بالقوي ، ولجأوا إليه ، واعتصموا به ، وعلموا أنه لا مُنجي لهم إلا هو ، ولا دافع عنهم إلا هو ، وأيقنوا بقوله تعالى: “ﻭﺇﻥ ﻳﻤﺴﺴﻚ اﻟﻠﻪ ﺑﻀﺮ ﻓﻼ ﻛﺎﺷﻒ ﻟﻪ ﺇﻻ ﻫﻮ ﻭﺇﻥ ﻳﺮﺩﻙ ﺑﺨﻴﺮ ﻓﻼ ﺭاﺩ ﻟﻔﻀﻠﻪ” (يونس: 107). فأخذوا بالأسباب تأدبا منهم مع رب الأسباب ، وتمسكوا بالسبب إيمانا منهم بالمسبب.
أما الضرب الثاني: وهم من أطفأوا نور بصائرهم بذنوبهم التي يصرون عليها ، فما زادتهم تلك الآيات إلا عتوا على عتوهم وبعدا على بعدهم ورجسا إلى رجسهم ، وصدق فيهم قوله تعالى: “…ﻭﺃﻣﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻣﺮﺽ فزاتهم ﺭﺟﺴﺎ ﺇﻟﻰ ﺭﺟﺴﻬﻢ ﻭﻣﺎﺗﻮا ﻭﻫﻢ ﻛﺎﻓﺮﻭﻥ” (التوبة: 125). فتمسكوا بالسبب وتركوا المسبب ، واهتموا بنظافة الظاهر وأهملوا الباطن ، وشغلوا بغسل الأيدي ونسوا غسل القلوب ، وتعاونوا على تنظيف الأبنية والأفنية ولم يهتموا بتنظيف القلوب والأفئدة. فرأينا حوارات تقام هنا وهناك اهتماما بهذا الظاهر أكثر من الاهتمام بنظافة الباطن ، حتى رأينا من يخرج علينا منكرا أن هذا الفيروس خلقا من خلق الله أو حتى جنديا من جنوده ، وما علم هذا وأمثاله أن كلا من عند الله “قل كل من عند الله ﻓﻤﺎﻝ ﻫﺆﻻء اﻟﻘﻮﻡ ﻻ ﻳﻜﺎﺩﻭﻥ ﻳﻔﻘﻬﻮﻥ ﺣﺪﻳﺜﺎ” (النساء: 78). وأن جنود الله تعالى هي مخلوقاته يستعملها كيفما شاء ويسلطها على من يشاء ، “ﻭﻣﺎ ﻳﻌﻠﻢ جنود ربك ﺇﻻ ﻫﻮ ﻭﻣﺎ ﻫﻲ ﺇﻻ ﺫﻛﺮﻯ ﻟﻠﺒﺸﺮ” (المدثر: 31).
ما أريد قوله إن آيات الله ودلائله وبراهينه تعز على صنف من البشر انطمست بصائرهم بذنوبهم وبعدهم عن ربهم ، ولا يرى هذه الآيات ويعقلها إلا من وهبهم الله علما نافعا وقلبا خاشعا وعقلا نيّرا ، قال تعالى: “وما يعقلها إلا العالمون” ، وقال جل شأنه: “ﺇﻥ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻟﺬﻛﺮﻯ ﻟﻤﻦ ﻛﺎﻥ له قلب ﺃﻭ ﺃﻟﻘﻰ اﻟﺴﻤﻊ ﻭﻫﻮ ﺷﻬﻴﺪ” (ق: 37). وقال سبحانه: “ﺇﻥ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻵﻳﺎﺕ لأولي النهى” (طه: 54).
نسأل الله تعالى أن ينير بصائرنا ، وأن يهد قلوبنا ، وأن يردنا أجمعين لدينه ردا جميلا ، كما أسأله أن يحفظ علينا مصرنا وأن ينجيها من كل بلاء ووباء ، وأن يوفق ولي أمرنا وجميع قادتنا لكل خير وأن يجري الله الخير على أيديهم ، وأن يؤلف بين قلوبنا جميعا ، وأن يكشف عنا هذا الكرب وأن يدفعه عنا بلطفه.
فيارب كما أريتنا قدرتك علينا فأرنا لطفك ورحمتك بنا يا أرحم الراحمين.