“إن الله لا يصلح عمل المفسدين” (يونس: 81).
وعد حق من إلهٍ حق ، جعله قانوناً ثابتاً للدنيا لا يتغير ، وناموساً حاكماً للكون لا يتبدل ولا يتحول. وهو أيضاً ﻗﺎﻋﺪﺓ ﻋﺎﻣﺔ ﻣﺒﻴﻨﺔ ﻟﺴﻨﺔ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺗﻨﺎﺯﻉ اﻟﺤﻖ ﻭاﻟﺒﺎﻃﻞ، ﻭاﻟﺼﻼﺡ ﻭاﻟﻔﺴﺎﺩ.
نعم إن الله لا يصلح عمل المفسدين ، فلا ﻳﺜﺒﺘﻪ ﻭﻻ ﻳﻜﻤﻠﻪ ﻭﻻ ﻳﺪﻳﻤﻪ ﺑﻞ ﻳﻤﺤﻘﻪ ﻭﻳﻬﻠﻜﻪ ﻭﻳﺴﻠﻂ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺪﻣﺎﺭ ، وﻻ ﻳﺠﻌﻞ ﻋﻤﻞ اﻟﻤﻔﺴﺪﻳﻦ ﺻﺎﻟﺤﺎ ﻟﻠﺒﻘﺎء، ﻓﻴﻘﻮﻳﻪ ﺑﺎﻟﺘﺄﻳﻴﺪ اﻹﻟﻬﻰ ﻭﻳﺪﻳﻤﻪ، ﺑﻞ ﻳﺰﻳﻠﻪ ﻭﻳﻤﺤﻘﻪ، ﻭﻳﺜﺒﺖ اﻟﺤﻖ اﻟﺬﻱ ﻓﻴﻪ ﺻﻼﺡ اﻟﺨﻠﻖ ﻭﻳﻨﺼﺮﻩ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﻌﺎﺭﺿﻪ ﻣﻦ اﻟﺒﺎﻃﻞ ﺑﻜﻠﻤﺎﺗﻪ.
لذا فما أفسد مفسد إلا وكان عاقبة أمره خسرا ، وصار أمره إلى بوار ، أروني مفسداً على مر التاريخ أفلح أو خائنا على توالى العصور فاز.
إن من أعجل العقوبات عقوبة المفسدين ، وإن المفسد مأخوذ بإفساده ، وإنه وإن أخطأه عاجل العقوبة لم يخطئه آجلها حتى إنه ليدرك عقبه وعقب عقبه بذنبه وفساده.
ونحن إذ نقرأ التاريخ أو حتى ننظر إلى من حولنا لنرى حاكمية هذا القانون على جميع المفسدين قديماً وحديثاً ظاهرة لا تخفى على أحد من أهل البصر والبصيرة بحيث لم يفلت أحد من عقوبته أو قصاصه.
والإفساد الذي توعد الله أهله بعقوبتهم من جنس عملهم بعدم إصلاح سعيهم وإفساد أمرهم له صور عديدة ، نذكر منها ما يلي:_
١_ السعي بين الناس بالغيبة والنميمة ونقل أحاديثهم على وجه الإفساد بينهم ، فهذا الصنف من أشباه البشر لا يصلح الله لهم سعياً ، ولا يتركهم بلا عقوبة وعقوبتهم تعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة فلا ترى واحداً منهم إلا وهو مبتلىً في أهله أو ماله أو صحته وعافيته ، كما تراه مسلوب السعادة منزوع الرضا.
٢_ التقصير في العمل وعدم إتقان الصنعة ، فهذا يعد من الإفساد بحيث يترتب عليه ضياع الحقوق وتفشي الإهمال ، وقد أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم بإتقان الصنعة وتجويد العمل فقال: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”.
٣_ نشر الرعب والتعدي على الآمنين ومهاجمة من يدافعون عن الوطن والأمة ، وهذا بلا شك أشد أنواع الإفساد الذي توعد الله أصحابه بإفساد أمرهم وتعجيل العقوبة لهم ، وهذا ما يمارسه خوارج العصر ضد قواتنا المسلحة ورجال أمننا تمهيدا لهدم أوطاننا وتسليمها لقمة سائغة لأعدائها.
لقد ابتلى الإسلام والمسلمون للأسف الشديد في القرن الماضي بظهور جماعات تربت على أيدي أعداء الأمة ، وبظهورها ظهر الكره بين المسلمين وظهر التنطع والفرقة بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد.
ولا عجب في ذلك فعندما تؤسس جماعة على يد رجل مجهول الهوية ، لا أحد يعرف له نسباً في مصر أو خارجها ، رجل جاء أبوه مهاجرا من بلاد المغرب ، ونحن نعلم أن اليهود هناك كُثُر ، رجل عرف بالساعاتي في زمن ما كان أحد يعمل بتصليح الساعات حينها إلا اليهود ، لبس رداء الإسلام وعاش به وسط أهله ، وجميع أعماله بعدئذ تظهر أن الرجل غرس بيننا غرسا بإحكام ، كما غرس ابن السوداء من قبل بين المسلمين فكانت نتيجة غرسهما متشابهة إلى حد بعيد ، فالأول فرًق الأمة وكذلك الثاني ، والأول أشعل الحرب بين المسلمين وكذلك الثاني ، الأول أسس لعمليات الاغتيال وكذلك الثاني إلى آخر الأعمال المشينة التي نتجت عن أفعالهما.
لكن الله غالب على أمره ، ووعده حق وكلامه صدق ، فما جنى هؤلاء ومن على شاكلتهم على مر العصور إلا ذلا وهوانا وحق فيهم قول الملك العدل كما حق في المفسدين من قبلهم: “وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب “.
لذا لا تراهم منذ نشأتهم إلا مشردين على ظهر الأرض ، أو مسجونين في بطنها ، ونهايتهم معروفة فهي إما موت في سجن أو قتل في وكر ، وإن عاشوا فهي عيشة الخوف والقلق والهم والنكد ، تحقيقاً لقول الله تعالى: “إن الله لا يصلح عمل المفسدين”.
فطوبى لمن قتلهم أو قتلوه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: “ﺳﻴﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ اﻟﺰﻣﺎﻥ ﺃﺣﺪاﺙ اﻷﺳﻨﺎﻥ، ﺳﻔﻬﺎء اﻷﺣﻼﻡ، ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ ﻣﻦ ﺃﺣﺴﻦ اﻟﻨﺎﺱ ﻗﻮﻻ، ﻳﻤﺮﻗﻮﻥ ﻣﻦ اﻟﺪﻳﻦ ﻛﻤﺎ ﻳﻤﺮﻕ اﻟﺴﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺮﻣﻴﺔ، ﻫﻢ ﺷﺮ اﻟﺨﻠﻖ، ﻭاﻟﺨﻠﻴﻘﺔ، ﻃﻮﺑﻰ لمن قتلهم أو ﻗﺘﻠﻮﻩ” (المعجم الأوسط).
جاء في السنن الكبرى للبيهقي أن أبا أمامة الباهلي لما رأى بعض الخوارج عندما أُلقي القبض عليهم عقب هزيمتهم ﺩﻣﻌﺖ ﻋﻴﻨﺎﻩ ﻭﻗﺎﻝ: ﺳﺒﺤﺎﻥ اﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻳﺼﻨﻊ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﺑﺒﻨﻲ ﺁﺩﻡ ﺛﻼﺛﺎ ﻛﻼﺏ ﺟﻬﻨﻢ ﻛﻼﺏ ﺟﻬﻨﻢ ﺷﺮ ﻗﺘﻠﻰ ﺗﺤﺖ ﻇﻞ اﻟﺴﻤﺎء ﺛﻼﺙ ﻣﺮاﺕ ، ﺧﻴﺮ ﻗﺘﻠﻰ ﻣﻦ ﻗﺘﻠﻮﻩ ، ﻃﻮﺑﻰ لمن قتلهم أو ﻗﺘﻠﻮﻩ.
وعندما سئل هل قال هذا الكلام من عند نفسه أم سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم ؟.
أجاب بقوله: ﺇﻧﻲ ﺇﺫا ﻟﺠﺮﻱء ، ﺑﻞ ﺳﻤﻌﺘﻪ ﻻ ﻣﺮﺓ ﻭﻻ ﻣﺮﺗﻴﻦ ﺣﺘﻰ ﻋﺪ ﺳﺒﻌﺎ ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﺇﻥ ﺑﻨﻲ ﺇﺳﺮاﺋﻴﻞ ﺗﻔﺮﻗﻮا ﻋﻠﻰ ﺇﺣﺪﻯ ﻭﺳﺒﻌﻴﻦ ﻓﺮﻗﺔ ﻭﺇﻥ ﻫﺬﻩ اﻷﻣﺔ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻓﺮﻗﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﻨﺎﺭ ﺇﻻ اﻟﺴﻮاﺩ اﻷﻋﻈﻢ.
أي ما عليه جمهور الأمة والكثرة الكاثرة منها لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”.
ومن ثَمً فإن تلك الشرذمة من المفسدين هالكون لا محالة في الدنيا خاسرون في الآخرة ، قال تعالى: “ﻗﻞ ﻫﻞ ﻧﻨﺒﺌﻜﻢ بالأخسرين أعمالا * اﻟﺬﻳﻦ ﺿﻞ ﺳﻌﻴﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﺤﻴﺎﺓ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻫﻢ ﻳﺤﺴﺒﻮﻥ ﺃﻧﻬﻢ ﻳﺤﺴﻨﻮﻥ ﺻﻨﻌﺎ” (الكهف: 103 ، 104).
أقول هذا الكلام علم الله ليراجع كل من ينتمي لأولئك المفسدين نفسه ليعود لرشده وليتوب إلى ربه فنحن في أيام طيبة فيها تقبل التوبات وتغفر الزلات لنصبح يدا واحدة وصفا واحدا ولنعتصم بحبل الله جميعا ولا نتفرق كما أمرنا ربنا وأوصانا نبينا فالجماعة رحمة والفرقة عذاب وقد اكتوينا جميعا بنارها فهلا عدنا لربنا ونبذنا الفرقة وأسبابها طاعة لله وإكراما لنبيه.
اللهم إنا ندعوك في هذا الشهر الكريم أن تؤلف بين قلوبنا وأن تنزع الغل والحقد والحسد من صدورنا وأن تجمعنا أجمعين على كلمة سواء ترضيك عنا يا رب العالمين.
وصل الله وسلم على نبيك ومصطفاك سيدنا محمد وعل آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.