وكيل وزارة اوقاف الفيوم يكتب :رداء السريرة
قال تعالى “فمن نكث ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻳﻨﻜﺚ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ” (الفتح:10).
قليلون هم الذين لا يقولون إلا ما يفعلون ، ولا ينطقون إلا بما يجول في خواطرهم ، ولا يتكلمون إلا بما هو مستقر في وجدانهم ، إيماناً منهم بربٍ يعلم السر وأخفي ، ومراقبة لبصير لا تخفى عليه خافية ، دينهم وأخلاقهم يعصمانهم من أن يُظهروا عكس ما يخفون.
أما الكثيرون فلا يقولون إلا عكس ما يفعلون ، ولا ينطقون إلا بخلاف ما يُضمرون ، ولا يتكلمون إلا ليستروا بكلامهم على ما يُخفون في صدورهم.
بدلوا نعمة البيان – تلك النعمة الكبرى التي منّ الله بها على بني الإنسان – إلى كفرٍ وكتمان ، وكأن الألسنة التي رُكِبَت في أفواههم ليعربوا بها عن مكنون نفوسهم وعن ما يدور في أذهانهم ، ما رُكبت إلا ليُظهروا بها خلاف ما يضمرون ، وليغطوا بها قبائح لطالما استقرت في صدورهم ، وشكلت وجدانهم ، وما لهذا بالتأكيد رُكّبت الألسنة في الأفواه ، إنما رُكِبت لينطق بها الإنسان عن مكنون صدره ، ولتكون وسيلة للنطق بالحق والشهادة بالصدق.
بهذه الصفات يظهر الفرق بين هؤلاء وبين أولئك.صفات مرذولة عاشوا عليها بين الناس ، بها أكلوا أموالهم واستحلوا دماءهم ، حتى صاروا وصمة عارٍ في جبين بني آدم.
هؤلاء وأشباههم توعدهم ربهم بأن قبائح أفعالهم ، وسوء نياتهم ، وفساد عقائدهم لن يجني وزرها ولا يحمل إثمها أحد غيرهم ، وسيكون ما يفعلونه عليهم لا لهم ، فقال سبحانه وقوله الحق: “فمن نكث ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻳﻨﻜﺚ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ” ، وجعل هذا القول قانوناً حاكماً لكونه ، فما نكث ناكث إلا وكانت عاقبة نكثه عليه.
ورحم الله سيدنا أبا بكر الصديق ، إذ يقول: “ثلاث من كن فيه كن عليه: النكث ، والمكر ، والبغي” ثم ذكر الآيات القرآنية الدالة على هذا ، ومنها بالطبع الآية التي بين أيدينا.
وإيماناً منا بربنا وتصديقاً لكلامه ، نؤمن بأنه ما أضمر أحد شراً إلا وألبسه الله ما أضمر علانية أمام الخلق ليكون عبرة لغيره ، ومن ينظر إلى الدنيا بعين الناقد البصير ، وبفكر المستلهم للآيات ، الدارس للعبر التي يرسلها الله تعالى أبداً للعالمين ، يجد البراهين الواضحة على نفاذ ذلك القانون السماوي الذي وضعه القادر على تنفيذه على سائر خلقه.
ﻟﻤﺎ ﺣﻠﻒ ﻣﺤﻤﺪ اﻷﻣﻴﻦ بن هارون الرشيد لأخيه المأمون ﻓﻲ ﺑﻴﺖ اﻟﻠﻪ اﻟﺤﺮاﻡ ، ﻭﻫﻤﺎ ﻭﻟﻴﺎ العهد ، ﻃﺎﻟﺒﻪ ﺟﻌﻔﺮ ﺑﻦ ﻳﺤﻴﻰ ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻝ: ﺧﺬﻟﻨﻲ اﻟﻠﻪ ﺇﻥ ﺧﺬﻟﺘﻪ ، ﻓﻘﺎﻝ ﺫﻟﻚ: ﺛﻼﺙ ﻣﺮاﺕ ، وبعد أن خرجوا من البيت الحرام قال الأمين للفضل ﺑﻦ اﻟﺮﺑﻴﻊ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ اﻟﻌﺒﺎﺱ ﺃﺟﺪ في ﻧﻔﺴﻲ ﺃﻥ ﺃﻣﺮﻱ لن ﻳﺘﻢ ، فقال ﻟﻪ الفضل: ﻭﻟﻢ ﺫﻟﻚ ، ﺃﻋﺰ اﻟﻠﻪ اﻷﻣﻴﺮ ؟ ﻗﺎﻝ: ﻷﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﺃﺣﻠﻒ ﻭﺃﻧﺎ أنوي النكث والغدر.
وبالفعل خضع قسراً لذلك القانون الإلهي فلم يتم له أمر.
ﻫﺬﻩ ﺳﻨﺔ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺧﻠﻘﻪ ، ﻭﻟﻮﻻ ﺫﻟﻚ ﻟﻔﺴﺪﺕ اﻷﺭﺽ ﻭﻣﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ، ﻭﻟﻤﺎ ﺃﻣﻜﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻤﺆﻣﻦ ﻣﻦ المنافق ، ﻭاﻟﺼﺎﻟﺢ ﻣﻦ اﻟﻄﺎﻟﺢ ، هذا ما أشار الله إليه في قوله تعالى: “فليُعلِمن الله الذين صدقوا وليُعلِمن الكاذبين” (العنكبوت: 3). على قراءة من قرأ فليعلمن بضم الياء وكسر اللام ، أي ﻓﻠﻴُﻌﻠِﻤﻦ اﻟﻨﺎﺱَ ﻭاﻟﻌﺎﻟﻢَ بهؤلاء اﻟﺼﺎﺩﻗﻴﻦ ﻭاﻟﻜﺎﺫﺑﻴﻦ ، ﺃﻱ ﻳﻔﻀﺤﻬﻢ ﻭﻳﺸﻬﺮﻫﻢ ، ﻫﺆﻻء ﻓﻲ اﻟﺨﻴﺮ ، ﻭﻫﺆﻻء ﻓﻲ اﻟﺸﺮ ، ﻭﺫﻟﻚ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭاﻵﺧﺮﺓ. ( كما ذهب إلى ذلك القرطبي في تفسيره للآية المذكورة).
هذا يبينه القول الكريم لرسولنا صلى الله عليه وسلم: “ﻣﺎ ﺃﺳﺮ ﻋﺒﺪ ﺳﺮﻳﺮﺓ ﺇﻻ ألبسه الله رداءها ﺇﻥ ﺧﻴﺮاً ﻓﺨﻴﺮ ﻭﺇﻥ ﺷﺮاً ﻓﺸﺮ” (المعجم الكبير للطبراني).
فعلينا أن نعامل الله في أفعالنا ، ولنكن على يقين من اطلاع ربنا علينا وعدله فينا ، وﻟﻮ ﺃﻥ ﺃﺣﺪنا عمل ﻓﻲ ﺻﺨﺮﺓ ﺻﻤﺎء، ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﺏ ، ﻭﻻ ﻛﻮﺓ ﻟﺨﺮﺝ ﻋﻤﻠﻪ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﻛﺎﺋﻨﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ، ولجوزي عليه. (كما جاء في الحكم).
فالعاقل الحذق عليه أن يكون على حذر من النكث والغدر وليعلم بأن لهذا الكون إلهاً يُحذّر من النكث ويفضح أهله وينتقم منهم في الدنيا قبل الآخرة ، كما أنه في المقابل يجزي الوفي خير جزاء وأكمله ، لذا ذكر تعالى عقب القانون السابق قوله: “ﻭﻣﻦ ﺃﻭﻓﻰ ﺑﻤﺎ ﻋﺎﻫﺪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻠﻪ ﻓﺴﻴﺆﺗﻴﻪ ﺃﺟﺮاً ﻋﻈﻴﻤﺎً” (الفتح: 10).
اللهم إنا نعوذ بك من النكث ومن الغدر ، كما نسألك أن تعيننا على الوفاء بعهدك وكلمتك ، وأن تكفينا وبلادنا شر الناكثين الغادرين ، وأن ترد عليهم نكثهم وغدرهم بعدلك يا أحكم الحاكمين.
وصل اللهم وسلم عل سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. حسنى ابوحبيب