قال تعالى “إنا فتحنا لك فتحاً مبينا” (الفتح: 1).بث ثقافة الأمل لدى اليائسين ، ونشر الطمأنينة في نفوس الخائفين ، وتمرير الأيدي الحانية على القلوب المجروحة ، صناعة حياتية ومنهج ربّاني لطالما ربّانا عليه ربنا من خلال تربيته لنبيه صلى الله عليه وسلم.
نزل هذا القول الكريم على قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو راجع من الحديبية إلى المدينة حزيناً مكلوماً ، حيث حال جبابرة الكفر بينه وبين ما يريد هو وصحبه الكرام من أداء واجب العمرة وزيارة بيت الله الحرام ، ونتج عن ذلك إبرام صلح بينه وبينهم عرف بصلح الحديبية في العام السادس من الهجرة.
وعلى الرغم من ذلك سمّى الله تعالى ذلك بالفتح المبين ، ولم تكن عقول كثير من الصحابة وقتئذ قادرة على استيعاب هذا ، فعندما تلا رسول الله على مسامع أصحابه: “إنا فتحنا لك فتحاً مبينا” ، قال ﺭﺟﻞ ﻣﻦ: ﺃﻱ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺃﻭ ﻓﺘﺢ ﻫﻮ ؟ فأجابه ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: “ﺇﻱ ﻭاﻟﺬﻱ ﻧﻔﺲ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻴﺪﻩ ﺇﻧﻪ ﻟﻔﺘﺢ”.
إي والله لقد كان فتحاً ، بل فتوحاً ، فلم تمض إلا بضعة شهور بعده حتى كان فتح خيبر ، وبعده بشهور
حدث الفتح الأكبر (فتح مكة) ، إذ كان في مثل هذا اليوم من العام الثامن للهجرة.
ذلك الفتح الذي يفتح أمامنا كلما أهل علينا يومه طاقة من الأمل والنور ، بهما نستطيع أن نتدارك ما قصرنا فيه ، ومنهما نتعلم أن النصر لا يكون إلا مع الصبر ، وأن الحق لا محالة منصور منصور ، وأن الباطل لا شك مخذول مخذول.
نعم لقد كان يوم الفتح وما زال بمثابة المدرسة التي منها نتعلم أن التواضع والصفح هما أساس قيام الدول وسبيل نهضتها ، وأن الانتقام والتشفي لا تقوم معهما دولة ولا يتقدم بهما شعب.
دخل رسولنا الكريم مكة ﺩﺧﻮﻝ ﺧﺎﺷﻊ ﻣﺘﻮاﺿﻊ ، ﻻ ﺩﺧﻮﻝ ﻓﺎﺗﺢ ﻣﺘﻌﺎﻝٍ ، دخلها ﻭﻫﻮ مطأطأ ﺭﺃﺳﻪ ﺗﻮاﺿﻌﺎ ﻟﻠﻪ ، ﺣﺘﻰ ﺇﻥ ﺫﻗﻨﻪ ﻟﻴﻜﺎﺩ ﻳﻤﺲ ﻭاﺳﻄﺔ اﻟﺮﺣﻞ ، دخلها ﻭﻫﻮ ﻳﻘﺮﺃ ﺳﻮﺭﺓ اﻟﻔﺘﺢ. وكان كلما رأى خوفاً من أحد طمأنه وأزال وحشته ، فعندما أتاه ﺭﺟﻞ ﻓﻜﻠﻤﻪ ، ﻓﺠﻌﻞ ﺗﺮﻋﺪ ﻓﺮاﺋﺼﻪ مهابة ، قال ﻟﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: «ﻫﻮﻥ ﻋﻠﻴﻚ ﻓﺈﻧﻲ ﻟﺴﺖ ﺑﻤﻠﻚ ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺃﻧﺎ اﺑﻦ اﻣﺮﺃﺓ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺶ كانت ﺗﺄﻛﻞ اﻟﻘﺪﻳﺪ».
وبعد أن دخل مكة ﻃﺎﻑ ﺑﺎﻟﺒﻴﺖ ، ﻭﺃﺯاﻝ ﻣﺎ ﺣﻮله ﻣﻦ ﺃﺻﻨﺎﻡ ﺑﻠﻐﺖ ﺛﻼﺛﻤﺎﺋﺔ ﻭﺳﺘﻴﻦ ، ﺛﻢ ﺩﺧﻞ اﻟﻜﻌﺒﺔ ﻭﺻﻠﻰ ﺭﻛﻌﺘﻴﻦ ﻓﻴﻬﺎ ، ﺛﻢ وقف ﻋﻠﻰ ﺑﺎﺑﻬﺎ ﻭﻗﺮﻳﺶ ﺗﻨﻈﺮ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻓﺎﻋﻞ ﺑﻬﺎ ، ﻓﻘﺎﻝ لهم: «ﻳﺎ ﻣﻌﺸﺮ ﻗﺮﻳﺶ ، ﻣﺎ ﺗﻈﻨﻮﻥ ﺃﻧﻲ ﻓﺎﻋﻞ ﺑﻜﻢ ؟ ﻗﺎﻟﻮا ﺧﻴﺮا ؛ ﺃﺥ ﻛﺮﻳﻢ ﻭاﺑﻦ ﺃﺥ ﻛﺮﻳﻢ ، ﻓﻘﺎﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: اﻟﻴﻮﻡ اﻗﻮﻝ ﻟﻜﻢ ﻣﺎ ﻗﺎﻝ ﺃﺧﻲ ﻳﻮﺳﻒ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ: “ﻻ ﺗﺜﺮﻳﺐ ﻋﻠﻴﻜﻢ اﻟﻴﻮﻡ ﻳﻐﻔﺮ اﻟﻠﻪ ﻟﻜﻢ ﻭﻫﻮ ﺃﺭﺣﻢ اﻟﺮاﺣﻤﻴﻦ” (ﻳﻮﺳﻒ: 92). اﺫﻫﺒﻮا ﻓﺄﻧﺘﻢ اﻟﻄﻠﻘﺎء.
كلمات حانية خرجت من فيه الشريف كانت كفيلة أن تؤمن الخائف ، وترد الشارد ، وتؤي الطريد ، وتلين بالإيمان قلوباً فاقت الحجارة قسوة ، فما هي إلا أيام معدودة حتى تحوّل الكاره إلى محب ، فأصبحت مكة دار إسلام بعد أن كانت دار كفر ، وتحوّل عتاتها وأبناؤ عتاتها إلى مجاهدين في سبيل الله ، وما خبر عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية عنّا ببعيد.
قرأنا تاريخ الأمم والشعوب فما وجدنا فيه عفو غالب على مغلوب ولا صفح منتصر على مهزوم يشبه ذلك العفو أو حتى يقترب منه ، حتى صار فتح مكة مثلاً يضرب في العفو والصفح ، لكنه كان عفو كريم على أهل كرم ، وصفح أصيل عن أهل أصل ، فصان أهل مكة العهد وحفظوا الجميل ، حتى إنه عندما ارتدت العرب بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ظل أهل مكة على إيمانهم ونصرهم لدين الله.
في الثامن والعشرين من يونيو عام 1919م تم توقيع معاهدة الصلح في قصر فرساي بفرنسا بين الدول التي اشتركت في الحرب العالمية الأولى ، بين المنتصرين والمهزومين ، فيها فرض المنتصر على المهزوم تحمل جميع نفقات الحرب والخسائر التي نتجت عنها ، كما قُطعت أوصال الدول المهزومة وأُذلت ، وعامل المنتصر المهزوم بكل صلف وكبر وغرور ، حتى روى أن الوفد الألماني قال بعد أن وقّع الاتفاقية: نلتقي بعد عشرين عاماً.
فماذا كانت النتيجة ، حرب عالمية ثانية بعد عشرين عاماً أشعلها هتلر أكلت الأخضر واليابس ، وعجزت عصبة الأمم التي أنشئت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى في منعها ، وراح ضحيتها أكثر من اثنين وستين مليوناً من البشر نصفهم مدنيين ، هذا بالآضافة إلى عشرات الملايين من الجرحي والمعوقين والمشوهين.
وبعد الحرب العالمية الثانية أنشئت هيئة الأمم للحيلولة دون وقوع حروب عالمية أخرى ، وها نحن نراها عاجزة كل العجز عن منع وقوع الحروب بين الدول ، وما ذلك إلا نتيجة طبيعية للكيل بمكيالين ، ووجود نبرات التعالي والكبر من دول منّ الله عليها بالقوة والغنى ، وعدم شيوع ثقافة العفو والصفح التي جاء بها رسول الله ليبلغها للعالمين.
ما أود قوله: إن يوم فتح مكة يوم عظيم ، واجبنا جميعاً نحوه الوقوف أمامه واستلهام دروسه وعبره ومحاولة التعلم منه ، لنعود أمة واحدة معتصمة بحبل الله المتين. فإن قوتنا تكمن في فهمنا لديننا وتمسكنا به واتباع سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
كل عام والأمة العربية والإسلامية بخير بمناسبة ذلك اليوم العظيم.وصل الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور حسنى ابوحبيب