“إنا أنزلناه في لية القدر” (القدر: 1).
كلما كان الأمر عظيماً وذو قدر ، كلما اقتضى أن يحاط بالشرف والمنزلة التي تليق به ، ولا شك أنه لا شيء أشرف ولا أعلى منزلة من القرآن الكريم ، ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا شك ، كما أنه لا عيب فيه ولا نقص ، كتاب فيه هدىً للناس يخرجهم به ربهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم للتي هي أقوم ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.
كتاب هذه أوصافه وتلك سماته كان لا بد وحتماً أن يشتمل نزوله على قدر وشرف ، وأيَّ شرف فهو شرف الزمان وشرف المكان وشرف المُرسِل والمرسَل به والمرسَل إليه.
أما عن شرف الزمان فحدث ولا حرج ، فقد نزل في ليلة مباركة “إنا أنزلناه في لية مباركة” (الدخان: 3). وليلة ذات قدر عظيم عند الله تعالى ، من بركتها وقدرها أن الملائكة تُحييها جنباً إلى جنب مع عباد الله الذاكرين الراكعين الساجدين ، ليلة تضيق الأرض فيها بملائكة الرحمن الذين يهبطون إليها من الملأ الأعلى لإحيائها ، وليستغفروا لكل عبدٍ صام وقام إيماناً بالله واحتساباً للأجر عنده وحده ، ملائكة تنزل بالسلام من رب السلام لتبلغه لعباده الطائعين.
أؤلئك الرسل الكرام يشعر بهم كل من كان على صلة بربه ، حتى قيل إنهم ليسمعون تسليمهم ، ويأنسون بوجودهم.
وشرف الزمان لا يقتصر على هذا فحسب ، بل يشمل شهراً هو من خير الشهور ، شهر التقوى والمغفرة والعتق من النار ، لو علمت الأمة ما فيه من البركة والفضل لتمنت من ربها أن يديمه عليها العام كله ، شهر ما فيه من الهدى والبينات يكفي لهداية كل من شاء الهداية وبحث عنها ، فهي هداية تهدي الحائر ، وترشد الضال ، وتشفي السقيم ، وتغني الفقير ، هداية بها يُرفع الكرب ، ويُفرج الهم ، ويرفع البلاء ، ويُقبل الدعاء ، “شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هديً للناس وبينات من الهدى والفرقان” (البقرة: 185).
هذا شرف الزمان ، أما شرف المكان ، فلا مكان أشرف ولا أطهر من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الرسل ، وسيد السادات من ولد آدم ، قلب سليم من أنقى القلوب وأصفاها ، قلب وسع العالمين حباً ورحمةً وإحساناً ، أنزله الله على ذلك القلب بإذنه مصدقاً لما بين يديه ليهدي المؤمنين إلى طريق الحق ، وليبشرهم برضا ربهم وبجنته متى تمسكوا به ، “ﻓﺈﻧﻪ نزله على قلبك ﺑﺈﺫﻥ اﻟﻠﻪ ﻣﺼﺪﻗﺎ ﻟﻤﺎ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻳﻪ ﻭﻫﺪﻯ ﻭﺑﺸﺮﻯ ﻟﻠﻤﺆﻣﻨﻴﻦ” (البقرة: 97).
أما عن المُرسِل فرب العالمين ، إله الكون وسيده ومالكه ذلك الإله العظيم الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما ، الحنان المنان ، الذي كتب على نفسه الرحمة ، تفضلاً منه وكرماً ، فكل شرف مستمد منه ، وكل قدر لأحد من خلقه فمن فيض جوده وواسع عطائه ، فالشريف من شرّفه والعظيم من عظّمه والغني من أغناه ، كل ما في الكون منه وإليه ، “ﻭﻣﺎ ﺑﻜﻢ ﻣﻦ ﻧﻌﻤﺔ ﻓﻤﻦ اﻟﻠﻪ” (النحل: 53).
أيضاً المُرسَل به كان في غاية الشرف ، فهو أمين السموات والأرض ، ورسول رب العالمين إلى رسله ، روح أمين ، قوي متين ، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وجزاه الله عنا وعن نبينا خيراً ، هو سيدنا جبريل عظيم الملائكة ، وأمين الله عل وحيه.
أما عن المرسَل إليه ، فسيد الخلق وحبيب الحق ، الرءوف الرحيم ، المنقذ من الضلال ، والهادي من العمي ، رحمة الله للعالمين ، الرحمة المهداة والنعمة المسداة ، سيدنا ومولانا محمد رسول الله ، الذي من الله علينا به ليخرجنا من الظلمات إلى النور ، فله الحمد وله الشكر سبحانه على هذه النعمة وتلك العطية.
فهل بعد هذا الشرف من شرف ، وهل بعد ذلك القدر من قدر ، نعم “إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وما أدراك ما ليلة القدر”.
تلك الليلة التي من فاز بها فهو السعيد ، ومن حُرمها فهو المحروم ، ليلة الرحمة والمغفرة والقبول والعتق من النار ، لا يصادفها عبد مؤمن يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه له ، ليلة يخرج منها الصائمون المقبلون على ربهم بذنوب مغفورة ، وبرقاب معتوقة ، وببركة تلزمهم حتى دخولهم جنات ربهم.
فاللهم إنا ندعوك في تلك الليالي الطيبة أن تكرمنا بليلة القدر وأن تجعلنا من أهلها وأن تغفر لنا فيها الذنوب وتكشف بفضلها عنا الكروب وتشفنا من كل داء يا رب كل شيء ومليكه.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا ، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.