قال تعالى “ﻭﻳﺮﻳﺪ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺒﻌﻮﻥ الشهوات ﺃﻥ ﺗﻤﻴﻠﻮا ﻣﻴﻼً ﻋﻈﻴﻤﺎً” (النساء: 27).
هناك صنف من الأناسي فقدوا هديهم فضل سعيهم ، وفسد عملهم ، سيطرت على أفئدتهم الشهوات ، فصاروا عبيداً للرغبات ، زُيّن لهم سوء عملهم ، كما زُيّنت لهم قبائح أفعالهم ، غايتهم كل شهوة ومقصودهم كل لذة من نساء أو مال أوسلطة أو جاه ، فغووا وهووا في مزابل دنيا الشهوات والهفوات ، ورتعوا من وحلها.
تنظر إليهم فتراهم أجساداً بلا أحلام ، وأدمغة بلا أفهام ، أشكالهم أشكال البشر ، أما أفعالهم فأفعال البهائم ، يطيرون خلف كل لذة ، ويسعون وراء كل شهوة ، دينهم ومعبودهم ما يشبع غرائزهم ، وشعارهم الشهوة ثم الشهوة ثم الشهوة ، جعلوا الدنيا قبلة طلبهم ، ومنتهى مقصودهم ، ففيها سعادتهم أو شقاؤهم ، لا ينظرون إلى الآخرة ولا ترد لهم على بال.
وياليتهم اكتفوا بذلك ، بل يريدون تعميم ذلك المنهج المعوج ، والسلوك المشين على غيرهم ، فكما غووا يريدون لغيرهم الغواية ، وكما سقطوا يريدون لغيرهم السقوط ، وبما أنهم أصبحوا مائلين عن الصراط المستقيم ، أصبح همهم وشغلهم أن يدعوا غيرهم للميل وليس الميل العادي الذي ربما يستقيم يوماً ما بل يدعونهم للميل العظيم الذي لا استقامة معه.
ولقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنهم عندما يحق عليهم العذاب يوم القيامة سيتبرأ رؤوس الفتنة منهم ودعاة الضلال ، ممن أضلوهم وأغووهم في موقف مشين ، فقال تعالى: “ﻗﺎﻝ اﻟﺬﻳﻦ ﺣﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻘﻮﻝ ﺭﺑﻨﺎ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﺃﻏﻮﻳﻨﺎ ﺃﻏﻮﻳﻨﺎﻫﻢ كما غوينا ﺗﺒﺮﺃﻧﺎ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﺇﻳﺎﻧﺎ ﻳﻌﺒﺪﻭﻥ” (القصص: 63).
هذا الصنف من ضُلّال بني آدم تراهم في كل عصر ، وفي كل مكان ، تنظر إلى مثابرتهم على نشر الرزيلة ، وإشاعة القبح ، وإشهار الذميم من كل فعل وقول ، فيستولي عليك العجب ، وتتملكك الدهشة ، “ﻭاﻧﻄﻠﻖ اﻟﻤﻸ ﻣﻨﻬﻢ ﺃﻥ اﻣﺸﻮا ﻭاﺻﺒﺮﻭا ﻋﻠﻰ ﺁﻟﻬﺘﻜﻢ ﺇﻥ ﻫﺬا ﻟﺸﻲء ﻳﺮاﺩ” (ص: 6).
ثم تعود لحبل الله المتين ، ونوره المبين ، فتقرأ فيه قوله تعالى: “ﻭﻳﺮﻳﺪ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺒﻌﻮﻥ الشهوات ﺃﻥ ﺗﻤﻴﻠﻮا ﻣﻴﻼً ﻋﻈﻴﻤﺎً” (النساء: 27) فيذهب عنك كل ذلك ، وتعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون بعضنا لبعض فتنة وما علينا إلا الصبر ومواجهة الفتن برصدها وبيان أهلها ومواجهتهم حتى نقيم الحق ونظهره للعالمين ، قال تعالى: “ﻭﺟﻌﻠﻨﺎ ﺑﻌﻀﻜﻢ ﻟﺒﻌﺾ ﻓﺘﻨﺔ ﺃﺗﺼﺒﺮﻭﻥ” (الفرقان: 20).
ولا يعني الصبر على الفتن بالطبع الاستسلام لها ، أو الركون والخضوع لهؤلاء الفتّانين ، بل يعني الوقوف في وجههم ، والتصدي لهم بكل ما أوتينا من قوة دفاعاً عن ديننا ووطننا وأمتنا.
إن أمتنا العربية والإسلامية في تلك الآونة لتمر بمنحنيات خطيرة إن لم نكن يقظين وعلى قدر المسئولية ، انزلقت أقدامها ونال منها أعداؤها ، وإنه لمما يزيد من خطورة المرحلة أن عُبّاد الشهوات من أبنائها يبذلون كل ما في وسعهم ، ويُنفقون جُلّ ما في أيديهم لمحاربة ثوابت القيم ومكارم الأخلاق ويحاولون محو هويتها.
وكما نعلم وتعلمون أن الأمم لا تنهض إلا بالأخلاق ، ولا تتقدم إلا بالقيم ، ولا تبقى إلا بالدين ، ولا تنمو إلا بالعمل ، ولا تهنأ إلا بالأمن ، ولا تأمن إلا بالعدل.
وأختم بأن أُذكر نفسي وإياكم بما قاله أمير الشعراء:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت * فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
وبما قاله شاعر الهند محمد إقبال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان * ولا دنيا لمن لا يحيي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين* فقد رضي الفناء لها قرينا.
وأختم بالتوجه بقلب مخلص لرب العالمين أن يثبت من كان منا مهدياً على هداه ، وأن يهدي كل ضال ، وأن يدل كل تائه ، وأن يلم شمل أمتنا ، وأن يكفيها شر طيور الظلام ، ودعاة الفتن ، ومروجوا الرزيلة ، ومحبوا إشاعة الفحشاء.