(من فاته الحج فقد بقي له العج والثج):
سُئل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: ﺃﻱ اﻟﺤﺞ ﺃﻓﻀﻞ؟ فأجاب بقوله: “العج والثج”. (رواه الترمزي وغيره عن أبي بكر الصديق).
فمن فاته الحج هذا العام فقد بقى له ما يعوضه عن حجه بل ويزيد في ثوابه على الحج ، فقد بقي له أمران:
أولهما: العج وهو الذكر ورفع الصوت بالتلبية وإظهار الطاعة وإعلان الخضوع والخشوع لرب العالمين.
والذكر – لا شك – أكبر أجراً وأجزل ثواباً من كل عبادة ، قال تعالى: “اﺗﻞ ﻣﺎ ﺃﻭﺣﻲ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺏ ﻭﺃﻗﻢ اﻟﺼﻼﺓ ﺇﻥ اﻟﺼﻼﺓ ﺗﻨﻬﻰ ﻋﻦ اﻟﻔﺤﺸﺎء ﻭاﻟﻤﻨﻜﺮ ﻭﻟﺬﻛﺮ اﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ” (العنكبوت: 45).
ونحن نعيش أياماً مباركة يضاعف فيها الأجر لكل ذاكر ، ويُجزل فيها الثواب لكل طائع ، فعلى كل من فاته الحج هذا العام وكان قد نواه أن يكثر من العج ليل نهار ، فبه يدرك ما فاته ، وبفضله يطمئن قلبه وتزك نفسه ، “ألا بذكر الله تطمئن القلوب”.
والذكر لا مكان يحويه ولا زمان يحصيه ، فهو مطلوب في كل زمان ومكان ، وهو العبادة الوحيدة التي لم يجعل الله لها حداً أو وقتاً ، “ﻭاﺫﻛﺮﻭا اﻟﻠﻪ كثيراً ﻟﻌﻠﻜﻢ ﺗﻔﻠﺤﻮﻥ (الجمعة: 10).
أما ثانيهما: فهو الثج ، ويقصد به إراقة الدماء من ذبح ونحر لإطعام الفقراء ، والتوسعة على المساكين ، وتندرج تحته كافة الصدقات وأنواع النفقات على كل مستحق ليسعد الناس ويسروا في هذه الأيام المباركة ، وإسلامنا لعظمته جعل إدخال السرور على الناس من أجلّ القُرب وأنجع الطاعات ، “ﺳﺌﻞ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﺃﻱ اﻷﻋﻤﺎﻝ ﺃﻓﻀﻞ؟ ﻗﺎﻝ: ﺇﺩﺧﺎﻟﻚ السرور ﻋﻠﻰ ﻣﺆﻣﻦ ﺃﺷﺒﻌﺖ ﺟﻮﻋﺘﻪ ، ﺃﻭ ﻛﺴﻮﺕ ﻋﺮﻳﻪ ، ﺃﻭ ﻗﻀﻴﺖ ﻟﻪ ﺣﺎﺟﺔ” (المعجم الأوسط للطبراني).
وﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﻤﺮ، ﺃﻥ ﺭﺟﻼ ﺟﺎء ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺃﻱ اﻟﻨﺎﺱ ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ؟ ﻭﺃﻱ اﻷﻋﻤﺎﻝ ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ؟ ﻓﻘﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﺃﺣﺐ اﻟﻨﺎﺱ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﺃﻧﻔﻌﻬﻢ ﻟﻠﻨﺎﺱ ، ﻭﺃﺣﺐ اﻷﻋﻤﺎﻝ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ سرور ﺗﺪﺧﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﻠﻢ ، ﺃﻭ ﺗﻜﺸﻒ ﻋﻨﻪ ﻛﺮﺑﺔ ، ﺃﻭ ﺗﻘﻀﻲ ﻋﻨﻪ ﺩﻳﻨﺎ ، ﺃﻭ ﺗﻄﺮﺩ ﻋﻨﻪ ﺟﻮﻋﺎ (المعجم الكبير للطبراني).
وإذا كان الحج يغفر الله به الذنوب فكذلك الثج ، وما ذاك إلا لكونه سبباً في سعادة الناس وإدخال السرور عليهم ، روى الطبراني بسنده ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ أنه ﻗﺎﻝ: «ﺇﻥ ﻣﻦ ﻭاﺟﺐ اﻟﻤﻐﻔﺮﺓ ﺇﺩﺧﺎﻟﻚ السرور ﻋﻠﻰ ﺃﺧﻴﻚ اﻟﻤﺴﻠﻢ» (المعجم الأوسط).
بل ربما فاق الثج الحج في الأجر ، لا سيما في أزمنة الفقر والمسكنة ، وفي أيام المحن والأوبئة ، ونحن نعيش وباءً زاد الفقير فقراً والمسكين عوزاً ومسكنةً ، وإن لم نتكاتف ونتضامن ويساعد بعضنا بعضاً هلكنا وأغضبنا ربنا ، ولا سبيل لنا إلى الخروج منها إلا بإطعام الطعام وإنفاق المال ، فعلى كل من كان ينوي الحج وحيل بينه وبين ما نوى بسبب ذالك الوباء أن يخصص نفقة حجه للفقراء والأرامل والمعاويذ من كل أطياف المجتمع ، فبهذا يكون كمن حج مائة حجة واعتمر مائة عمرة وأكثر.
ذكر الإمام الغزالي في الإحياء: أن ﺭﺟﻼ ﺟﺎء ﻳﻮﺩﻉ ﺑﺸﺮ ﺑﻦ اﻟﺤﺎﺭﺙ قائلاً له: ﻗﺪ ﻋﺰﻣﺖ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﺞ أتأمرني ﺑﺸﻲء.
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ: ﻛﻢ ﺃﻋﺪﺩﺕ من النفقة للحج ؟.
ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﻟﻔﻲ ﺩﺭﻫﻢ.
ﻗﺎﻝ ﺑﺸﺮ: ﻓﺄﻱ ﺷﺊ ﺗﺒﺘﻐﻲ ﺑﺤﺠﻚ ؟ ﺗﺰﻫﺪًا ﺃﻭ اﺷﺘﻴﺎﻗﺎً ﺇﻟﻰ اﻟﺒﻴﺖ ﺃﻭ اﺑﺘﻐﺎء ﻣﺮﺿﺎﺓ اﻟﻠﻪ؟.
ﻗﺎﻝ: اﺑﺘﻐﺎء ﻣﺮﺿﺎﺓ اﻟﻠﻪ.
فقال له: ﻓﺈﻥ ﺃﺻﺒﺖ ﻣﺮﺿﺎﺓ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻭﺃﻧﺖ ﻓﻲ ﻣﻨﺰﻟﻚ ﻭﺗﻨﻔﻖ الألفي ﺩﺭﻫﻢ ﻭﺗﻜﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﻳﻘﻴﻦ ﻣﻦ ﻣﺮﺿﺎﺓ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ. ﺃﺗﻔﻌﻞ ﺫﻟﻚ ؟.
ﻗﺎﻝ: ﻧﻌﻢ.
فقال له: اﺫﻫﺐ ﻓﺄﻋﻄﻬﺎ ﻋﺸﺮﺓ ﺃﻧﻔﺲ ﻣﺪﻳﻮﻥ ﻳﻘﻀﻲ بها ﺩﻳﻨﻪ ، ﻭﻓﻘﻴﺮ ﻳﺮﻡ ﺷﻌﺜﻪ ، ﻭﻣﻌﻴﻞ ﻳﻐﻨﻲ ﻋﻴﺎﻟﻪ ، ﻭﻣﺮﺑﻲ ﻳﺘﻴﻢ ﻳﻔﺮﺣﻪ ، ﻭﺇﻥ ﻗﻮﻱ يقينك ﺗﻌﻄﻴﻬﺎ ﻭاﺣﺪًا ﻓﺎﻓﻌﻞ ، ﻓﺈﻥ ﺇﺩﺧﺎﻟﻚ اﻟﺴﺮﻭﺭ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺐ اﻟﻤﺴﻠﻢ ﻭﺇﻏﺎﺛﺔ اﻟﻠﻬﻔﺎﻥ ﻭﻛﺸﻒ اﻟﻀﺮ ﻭﺇﻋﺎﻧﺔ اﻟﻀﻌﻴﻒ ﺃﻓﻀﻞ من مائة حجة بعد حجة اﻹﺳﻼﻡ ، ﻗﻢ ﻓﺄﺧﺮﺟﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﺃﻣﺮﻧﺎﻙ ﻭﺇﻻ ﻓﻘﻞ ﻟﻨﺎ ﻣﺎ ﻓﻲ ﻗﻠﺒﻚ.ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻧﺼﺮ ﺳﻔﺮﻱ ﺃﻗﻮﻯ ﻓﻲ ﻗﻠﺒﻲ.
ﻓﺘﺒﺴﻢ ﺑﺸﺮ ﺭﺣﻤﻪ اﻟﻠﻪ ، ﻭﺃﻗﺒﻞ ﻋﻠﻴﻪ ، ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻪ: اﻟﻤﺎﻝ ﺇﺫا ﺟﻤﻊ ﻣﻦ ﻭﺳﺦ اﻟﺘﺠﺎﺭاﺕ ﻭاﻟﺸﺒﻬﺎﺕ اﻗﺘﻀﺖ اﻟﻨﻔﺲ ﺃﻥ ﺗﻘﻀﻲ ﺑﻪ ﻭﻃﺮا ﻓﺄﻇﻬﺮﺕ اﻷﻋﻤﺎﻝ اﻟﺼﺎﻟﺤﺎﺕ ﻭﻗﺪ ﺁﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ ﺃﻥ ﻻ ﻳﻘﺒﻞ ﺇﻻ ﻋﻤﻞ اﻟﻤﺘﻘﻴﻦ.
نعم هناك كثيرون كان حجهم على حساب عجهم وثجهم ، فرأينا كثيراً يحجون ، وقليلاً هم الذين يعجون ويثجون ، رأينا أناساً يحجون كل عام ويعتمرون كل فصل ، ومع ذلك لا يذكرون الله إلا قليلاً ولا ينفقون إلا أقل القليل ، ونسوا أن عبادتهم الحقيقية هي إطعام الطعام ، وإنفاق المال على وجوهه كما أمر الله تعالى ، ﻭﺭﺑﻤﺎ ﻳﺤﺮﺻﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺇﻧﻔﺎﻕ اﻟﻤﺎﻝ ﻓﻲ اﻟﺤﺞ ﻓﻴﺤﺠﻮﻥ ﻣﺮﺓ ﺑﻌﺪ ﺃﺧﺮﻯ ﻭﺭﺑﻤﺎ ﺗﺮﻛﻮا ﺟﻴﺮاﻧﻬﻢ ﺟﻴﺎﻋﺎً.
ومن هذا حذر اﺑﻦ ﻣﺴﻌﻮﺩ رضي الله تعالى عنه ، فقال: ﻓﻲ ﺁﺧﺮ اﻟﺰﻣﺎﻥ ﻳﻜﺜﺮ اﻟﺤﺎﺝ ﺑﻼ ﺳﺒﺐ ، ﻳﻬﻮﻥ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺴﻔﺮ ، ﻭﻳﺒﺴﻂ ﻟﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﺰﺭﻕ ، ﻭﻳﺮﺟﻌﻮﻥ ﻣﺤﺮﻭﻣﻴﻦ ﻣﺴﻠﻮﺑﻴﻦ مطرودين ، ﻳﻬﻮﻱ ﺑﺄﺣﺪﻫﻢ ﺑﻌﻴﺮﻩ ﺑﻴﻦ اﻟﺮﻣﺎﻝ ﻭاﻟﻘﻔﺎﺭ ، ﻭﺟﺎﺭﻩ ﻣﺄﺳﻮﺭ ﺇﻟﻰ ﺟﻨﺒﻪ ﻻ ﻳﻮاﺳﻴﻪ.
ورحم الله ابن المبارك الذي كان يحج عامًا ويغزو عامًا ، وفي العام الذي أراد فيه الحج خرج ليلة ليودع أصحابه قبل سفره ، فوجد امرأة في الظلام تنحني على كومة من القمامة تفتش فيها حتى وجدت دجاجة ميته فأخذتها وانطلقت لتطهوها وتطعمها صغارها، فتعجب ابن المبارك ونادى عليها وقال لها: ماذ تفعلين يا أمة الله؟ وذكرها بالآية (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ).
فقالت له: اترك الخلق للخالق فلله تعالى في خلقه شؤون.
فقال لها ابن المبارك: ناشدتك الله أن تخبريني بأمرك..
فقالت له: أما وقد أقسمت عليّ بالله فلأخبرنَّك:
إن الله قد أحل لنا الميتة، فأنا أرملة فقيرة وأم لأربع بنات ولا يوجد من يكفلنا، فخرجت ألتمس عشاء لبناتي اللاتي أحرق لهيب الجوع أكبادهن فرزقني الله هذه الميتة .. أفمجادلني أنت فيها؟.
هنا بكى ابن المبارك، وقال لها: خذي هذه الأمانة وأعطاها المال كله الذي كان ينوي به الحج وعاد إلى بيته ولازمه طوال فترة الحج.
وخرج الحجاج من بلده فأدوا فريضة الحج، ثم عادوا، وذهبوا لزيارته في بيته ليشكروه على إعانته لهم طوال فترة الحج.
فقالوا له: رحمك الله يا ابن المبارك ما جلسنا مجلسًا إلا أعطيتنا مما أعطاك الله من العلم، ولا رأينا خيرًا منك في تعبدك لربك في الحج هذا العام.
فتعجب ابن المبارك من قولهم، واحتار في أمره وأمرهم، فهو لم يفارق البلد، ولكنه لايريد أن يفصح عن سره، ونام ليلته وهو يتعجب مما حدث، وفي المنام يرى رجلا يشرق النور من وجهه يقول له: السلام عليك يا عبدالله ألست تدري من أنا؟ أنا محمد رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- أنا حبيبك في الدنيا وشفيعك في الآخرة جزاك الله عن أمتي خيرًا .. يا عبد الله ، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى .. وسترك كما سترت اليتامى، إن الله – سبحانه وتعالى – خلق ملكاً على صورتك .. كان ينتقل مع أهل بلدتك في مناسك الحج .. وإن الله تعالى كتب لكل حاج ثواب حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة.
فهكذا ينبغي أن نكون ، فالمسلم الحق يعلم يقيناً أن مساعدته لأخيه ، وسعيه في مرضاته ، ومحاولته إدخال السرور عليه أعظم من الحج ومن كل عبادة ، طالما فعل ذلك لله.
فيا من كان ينوي الحج فعليك بالعج والثج تكون أفضل من كل من أدى الحج ، فلا حج بلا عج ولا ثج.
نسأل الله تعالى ان يكتب لنا ولكم حج بيته الحرام وأن يجعلنا وإياكم من الحاجين العاجين والثاجين ، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محظد وعلى آله وصحبه وسلم.