الدكتور حسني ابو حبيب يكتب : قوانين كونية حاكمة
“ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله” (فاطر: 43).
هذا قانون سماوي لا يستطيع أحد الخروج عليه مهما كانت قوته ، كما لا يستطيع أحد التحايل عليه مهما كانت قريحته ، حكم من قاض عدل ، وحاكم قدير ، لا ينقصه دليل ، كما أنه ليس في حاجة لشاهد ، حاكمٌ السر عنده علانية ، مطلع على أحوال العباد فلا تخفى عليه خافية.
خلق العباد فهداهم لم ينصلح به حالهم ، وتعمر معه دنياهم ، فدلّهم على مكارم الأخلاق ومحاسنها ، فاستجاب له من سبقت له السعادة ، وانقلب على عقبيه من اختار لنفسه الشقاوة.
والمكر لا شك من الخصال الذميمة ، والطباع السيئة التي يأنف منها الطبع السليم ، وتنفر منها المروءة ، وهو أمر مستهجن في كل الأعراف والقيم ، وما ظهر في مجتمع إلا أباده ، ولا تفشّى في حضارة إلا وأتى عليها وجعلها كأمس الدابر.
وهو من الصفات الشيطانية التي متى تمكنت من الإنسان صيّرته عبداً لشيطانه ، ومملوكاً لغرائزه ، ورقيقاً لهواه ، فهو إن صلى أو صام فلهؤلاء على وجه الحقيقة يصلي ويصوم.
ومن هنا حكم النبي صلى الله عليه وسلم على الماكر حكماً رادعاً ، فقال: “المكر والخديعة في النار” (سلسلة الأحاديث الصحيحة).
ولمّا كان المكر سعياً إلى الفساد في خفية ، ومحاولة صرف الماكر غيره عما يقصده من محاولة الضرر به بحيلة ، قرنه الرسول الكريم بالغاش لما بينه وبين الغاش من شبه في وجوه كثيرة ، كما تبرأ منه على الملأ ، فقال صلى الله عليه وسلم: “ﻟﻴﺲ ﻣﻨﺎ ﻣﻦ ﻏﺶ ﻣﺴﻠﻤًﺎ ﺃﻭ ﺿﺮﻩ ﺃﻭ ﻣﺎﻛﺮﻩ” (كنز العمال).
ولقد نهى نبينا الكريم في أكثر من موضع عن معاونة أمثال هؤلاء الماكرين الغادرين الذين ينخرون في المجتمع كالسوس ، ﺭﻭﻯ اﻟﺰﻫﺮﻱ ﺃﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ: “لا تمكروا ﻭﻻ ﺗﻌﻴﻨﻮا ﻣﺎ ﻛﺮًا ، ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﻘﻮﻝ: ﻭﻻ ﻳﺤﻴﻖ اﻟﻤﻜﺮ اﻟﺴﻴﺊ ﺇﻻ ﺑﺄﻫﻠﻪ. ﻭﻻ ﺗﺒﻐﻮا ﻭﻻ ﺗﻌﻴﻨﻮا ﺑﺎﻏﻴﺎً ، ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻳﻘﻮﻝ: ﺇﻧﻤﺎ ﺑﻐﻴﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻔﺴﻜﻢ. ﻭﻻ ﺗﻨﻜﺜﻮا ﻭﻻ ﺗﻌﻴﻨﻮا ﻧﺎﻛﺜﺎً ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﻘﻮﻝ: ﻓﻤﻦ ﻧﻜﺚ ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻳﻨﻜﺚ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ”.
ولقد شاءت حكمة الله تعالى واقتضى ميزان عدله أن لا يحيق المكر السيء إلا بفاعله ، ولا يضر إلا صاحبه.
ذلك ليطمئن أصحاب القلوب النقية والنفوس الطاهرة وتقر أعينهم ، فلا يكثرون من الالتفات حولهم ، ولا ينتبهون إلا لرسالتهم التي كُلِّفوها ، ولا يهتمون إلا بأداء الأمانة التي حُمِّلوها ، وليكونوا على يقين أن الشر لا يجنيه إلا زارعه ، ولا يأكله إلا طابخه ، ولا يكتوي به إلا من سهر ليله في حبكه وأمضى نهاره في سبكه.
وقديماً قالت العرب: من حفر لأخيه جبّاً وقع فيه منكبّاً. والمثل الدارج يقول: من حفر بئراً لأخيه وقع فيه. والشر عاقبته شر.
ولله در القائل:
ﺇﺫا ﺃﺭاﺩ اﻣﺮﺅ ﻣﻜﺮاً ﺟﻨﻰ ﻋﻠﻼً … ﻭﻇﻞ ﻳﻀﺮﺏ ﺃﺧﻤﺎﺳﺎً ﻷﺳﺪاﺱ.
لذا نقول لمن يخلصون في خدمة دينهم والنهوض بأمر وطنهم: اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، وسيحميكم من مكر الماكرين وغدر الغادرين ، فقد سبق حكم الله تعالى على كل ماكر وغادر بالخيبة والخسران.
كما نقول لكل ماكر وغادر: اعملوا ما شئتم فلن يحيق مكركم بأحد غيركم ، وستكون نهايتكم كنهاية أسلافكم التي رأيتموها وترونها بأعينكم ، امكروا وتكتلوا وانكثوا ، فالقافلة تسير والكلاب تعوي ، وما ضر السحاب يوماً نبح الكلاب ، وحسبنا في هذه الحياة قول ربنا وحكمه: “ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله”.
صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم ، ونحن لحكمه مطمئنون وبنصره موقنون ، وبتأييده مؤمنون.