آراءأهم الأخبار

الدكتور أحمد درويش يكتب : الغفران فى عيون وقحة

فى الثامن من أكتوبر 1973م وقف وزير خارجية إسرائيل أبا إيبان يلقى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، بصوت هادئ ونظرات وقحة قال:

“لا يوجد رجل واحد أو امرأة واحدة فى هذه القاعة أو خارجها ، لا يعلم فى أعماق قلبه ، أن مصر وسوريا وجهتا ضربة قوية ومفاجئة إلى أعز القضايا الإنسانية – قضية السلام الدولى – إن الهجوم المتعمد وغير المبرر الذى شنوه عبر خطوط وقف إطلاق النار فى يوم الغفران 6 أكتوبر 1973م، سيصنف بالتأكيد فى التاريخ المستقبلى ، بإعتباره أحد أسوأ الأعمال وأكثرها بغضًا على الإطلاق” .

كانت كلمات أبا إيبان لا تشير إلى الجانب العربى فى أبغض أعمال إسترداد الحق ، بقدر إشارتها لفشل المخابرات الإسرائيلية والأمريكية فى إيجاد تحذير إستخباراتى مسبق عن بدء العمليات العسكرية العربية .

تلك المفاجأة التى أظهرت عيبًا هيكليًا فى جيش الدفاع الإسرائيلى ، وهو أنه ليس كما أشاع من إستعداده لكافة السيناريوهات ، صارت تلك المفاجأة هى حجة الهزيمة إلى جانب القيود السياسية لصرف النظر عن النواقص وإنكار الضعف الهيكلى فى جيش الدفاع الإسرائيلى .

كانت القيود السياسية تعبر عن التوتر بين رغبة هيئة الأركان الإسرائيلية فى توجيه ضربة إستباقية والظروف السياسية التى جعلت من تلك الخطوة شبه مستحيلة .

ولكن بالنظر فى ثوابت مفاهيم القتال الإسرائيلية من خلال هجماتهم المضادة كانت أوجه قصور خطط العمليات خطيرة ، فتراكمت القوة ، وانتشرت القوات البرية والجوية فى إندلاع أعمال عدائية غير مترابطة ومعيبة ، فكان واضحًا الخلل الكبير الذى لم يكن يحقق لهم الإستباقية إذا سمحت الظروف السياسية .

نشأت إحدى صعوبات خلل حرب يوم الغفران من عيب أمر داخلى متأصل بجيش الدفاع الإسرائيلى، منذ تولى موشيه ديان رئاسة أركان الجيش الإسرائيلى عام 1957م .

وقد كان ديان نموذجًا لليهودى الإسرائيلى الجديد الذى يحمل بيده سلاح وباليد الأخرى معولاً ، فرأى أن الفرد فى إسرائيل يجب أن يتمكن من مُسيرين ، مُسير شبابه الذى يحمل فيه السلاح ، ثم مُسير كهولته الذى يحمل فيه المعول.

وعلى أساس فكرة منح قيادة جيش الدفاع الإسرائيلى شبابًا أبديًا ، فقرر تبكير سن التقاعد لضباط جيش الدفاع الإسرائيلى ، لتمكينهم من الشروع فى العمل بمهن أخرى ، ورغم معارضة بن جوريون وزير الدفاع آن ذاك ، إلا أنه لم يستخدم سلطته لإلغاء ذلك .

الأمر الذى جعل الخدمة القصيرة للضباط غير كافية لتعليم واسع النطاق فى فن الحرب ، وهو أمر حيوى لتحقيق مهام القيادة والأركان من مستوى قائد كتيبة لأعلى ، مع تحويل الوقت الثمين من هذه الخدمة القصيرة للحصول على التعليم اللازم للوظيفة الثانية مثل الدراسات الأكاديمية ، بدلاً من التدريب القتالى .

كانت النتيجة أن المناصب العليا للقيادة والأركان كان يديرها ضباط يفتقرون إلى التعليم المناسب فى فنون الحرب من جهة ، والخبرة العملية اللازمة لتعويض تلك الثغرات التعليمية من جهة أخرى، ففى مهنة القيادة ، العمر التراكمى والخبرة هما مفتاح مرونة الشخصية والإستعداد لمجابهة الأزمات والمفاجآت غير المتوقعة ، لهذا السبب يكون التقدم إلى مناصب القيادة العسكرية يسير ببطء .

وكانت عقيدة إسرائيل الدفاعية هى نقل القتال إلى أراضى الطرف الآخر ، وفى يونيو 1967م إكتسبت عمقاً إقليميًا كافيًا لإيقاف مهاجميها بعيدًا عن مراكز سكانها ، ولكنها بدلاً من التكيف مع الظروف الجيوستراتيجية الجديدة .

وتبنى إستراتيجية دفاعية تمنحها ميزة عملياتية جديدة أكثر تطورًا مع الوضع الدفاعى الثابت الجديد ، وتكون واضحة الإنتشار على طول الحدود الجديدة البعيدة بطريقة تسمح بإستمرارية دفع قوات العدو القصوى إلى مناطق القتل ، حيث يمكن مهاجمتها وهزيمتها من قبل أنساق الإحتياط ، لم تنظر القيادة الإسرائيلية الشابة قليلة الخبرة إلى تطورات وضعهم الدفاعى وظلوا على عقيدة الدفاعات الثابتة .

لذا ففى الأيام الأولى من القتال ، كان السلوك العملياتى مطلوبًا بشكل خطير حيث خاضت الحرب معارك فرق ، ووصفت لجنة أجرانات للتحقيق (the Agranat Commission of Inquiry) أعمال قتال الجيش الإسرائيلى فى تلك المعارك ، بأنها كانت منقسمة كما لو كانت كأداء إدارات على مستوى شركة مدنية .

نتيجة لذلك ، مع أول يوم قتال تكبدت إسرائيل خسائر فادحة أثناء الدفاع عن المواقع الأمامية ، ولم تستطع إحتواء القوات المصرية لشن هجوم مضاد من قبل قوات الإحتياط ، فعدم جودة القادة ليست مشكلة عسكرية فقط ، وإنما هى مشكلة ترتبط إرتباطاً وثيقاً بمصير الدولة .

وبحلول الوقت الذى توقف فيه القتال ، كان من الملائم أن يصدق الجميع أنه لو تم إعطاء تحذير مسبق فقط وتم حشد الجيش الإسرائيلى قبل يومين أو ثلاثة من يوم الغفران وأُمر بالقتال ، لكانت الأيام الأولى من الحرب دارت بشكل مختلف ، قد يكون هذا صحيحًا فيما يتعلق بالجبهة السورية التى كانت إستراتيجيتها الهجومية هى إسترداد هضبة الجولان .

ولكن ليس على الجبهة المصرية التى فرض عليها الرئيس أنور السادات تغيير إستراتيجى ثورى فى نهج الحرب ، ودور هجومى فى ظل متغيرات لم يتداركها قادة جيش الدفاع الإسرائيلى .
فبعد أيام قليلة من القتال ظهر المدى الكامل لهزيمة الجيش الإسرائيلى ، فتحطمت عقيدته العملياتية وسقطت قيادته العسكرية .

وثبت أن أساليب قتاله فى الجو وعلى الأرض غير مناسبة للتحركات المصرية المبتكرة ، فمواجهة تقدم قوات المشاه هائلة ، يتخللها إنتشار صواريخ مضادة للدبابات ويؤمنها غطاء مدفعية ملائم ، وبطاريات صواريخ مضادة للطائرات أفقدت سلاح الجو الإسرائيلى تفوقه وفعاليته العملياتية ، بينما إفتقرت المدرعة الإسرائيلية للغطاء الملائم مما أفقدها القوة الساحقة للهجوم الآلى .

يحكى الجنرال جاكى إيفين ، الذى خدم فى الحرب كنائب قائد فرقة إرييل شارون ، فى كتابه “فى مركز الجاذبية” (The Center of Gravity)، عن الأزمة الناجمة من هجماتهم المضادة الفاشلة فى يومى 8 و9 أكتوبر ، أنه قد ذهبت تداعيات هذا الفشل إلى ما هو أبعد من تلك المفاجأة الإستخباراتية ، فبمجرد النظر إلى بيان حسابات المعركة ، نجده يشير إلى أنه حتى لو تم إرسال تحذير إستخباراتى وتم نشر قوات جيش الدفاع الإسرائيلى على جبهة سيناء مسبقًا بترتيب المعركة المخطط بالكامل ، فإن القتال الأولى قد لا يكون أفضل .

وربما سارت الأمور إلى ما هو أسوأ ، فقد تجاهلت القوات الجوية التغييرات الرئيسية التى حدثت من الإنتشار المكثف لقوات الدفاع الجوى المصرية على طول جبهة قناة السويس منذ حرب الإستنزاف ، إضافة إلى تسليحها بما يسمح بالدفاع عن موقعها ومعداتها ، فكان يجب إعادة التفكير فى التوقعات التى يمكن بها أن تساعد القوات الجوية الإسرائيلية فى صد الهجوم المصرى .

ولكن لم تعد إسرائيل حساباتها ، وكان المخطط خلال تقييم الوضع لجيش الدفاع الإسرائيلى فى 19 إبريل 1973م ، حيال الإجراءات الإحترازية التى يجب إتخاذها لردع العدوان العربى فى حالة شنه حرب ، هو إستغلال ميزة القوة الجوية فى التغلب على عقبات الجغرافيا ، لتمنح الجيش الإسرائيلى أكبر قدر من الردع وتوفير الحماية الجوية لتقدم الدبابات ، مع تغطية بعض المناطق كمظلة تعوض نقص الدبابات ، وتسلل بعض عناصر الخطوط الأمامية لتدمير مرسلات أوامر صواريخ الدفاع الجوى المصرى ، مما يحقق إمكانية صمود القوات الجوية الإسرائيلية لمدة 24 ساعة .

يؤكد المؤرخ العسكرى الإسرائيلى يوآف جيلبر أن الفشل الإستخبارى لا يشمل فقط عدم وجود تحذير مسبق بأن الحرب وشيكة .

ولكن أيضًا حقيقة أن إسرائيل لم تكن على علم بأنها فقدت قوتها الرادعة بالإعتماد على مفهوم الردع مقابل إفساد فكرها الإستراتيجى ، الذى تضاءل أمام الفكر الإستراتيجى المصرى .

فكان الرئيس السادات واعيًا بقوة الردع الإسرائيلى ، يدرك تمامًا دونية معدات وأسلحة الجيش المصرى مقارنة بالقوات الجوية والمدرعات الإسرائيلية .

الأمر الذى دفعه إلى صياغة مخطط مختلف للحرب ، فعدّل بطريقة إبداعية إستراتيجيته الحربية مع القيود الأساسية لجيشه .
لقد بدأ التحول الإستراتيجى فى إدراك الرئيس السادات أولاً ، وهو أن مصر لن تستطع إستعادة شبه جزيرة سيناء من خلال عملية هجوم شاملة ، ولكن بدلاً من ذلك إختار هدفًا محدودًا فى متناول الجيش المصرى .

كان هذا الهدف هو تقويض مفهوم الأمن الإسرائيلى ، من خلال الدفع بعملية عسكرية من شأنها أن تنتج واقعًا جديدًا ومن ثم يمكن الجلوس على مائدة المفاوضات .

هذا الواقع الذى فرضه الرئيس السادات من خلال التغيير الإستراتيجى لإتجاه القوات المسلحة .

فى التفكير المصرى ، الذنب الذى لم تتوقعه القيادة العسكرية الإسرائيلية ، ولم تحذر به المخابرات، فكان الأولى من التحذير بالوقت ، أهمية فهم المنطق الإستراتيجى للحرب ، وطبيعتها المحتملة وأسلوبها ، والإستعداد وفقًا لذلك بقيادات ذات جودة عالية .

زر الذهاب إلى الأعلى