“وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء: 107).
رحمة تلك الكلمة صاحبة الأربعة أحرف تحمل معانٍ جميلة منها: رقة الطبع ، ونقاء السريرة ، وسلامة الصدر ، ولين القلب ، وحب الخير للناس جميعاً ، والشعور بحاجة المحتاج ، والإحساس بأنين المريض ، والتناغم مع كون الله ، والتفاعل معه.
تلك الكلمة وردت في القرٱن الكريم أكثر من سبعين مرة ، لكن المتأمل لها يجدها رسمت في القرٱن الكريم على صورتين:
الأولى: وهي الأكثر ، حيث أتت مرسومة وفق ما تعارف عليه أهل العربية ، أعني: راء ، حاء ، ميم ، ثم تاء مربوطة أي مضمومة ، هكذا: (رحمة).
الثانية: أتت على خلاف الأصل ، براء ، حاء ، ميم ، ثم تاء مبسوطة أي مفتوحة ، هكذا: (رحمت) وهذا في سبعة مواضع ، وهذه المواضع هي:
1- الآية: 218، من سورة البقرة.
2- الآية: 56 من سورة الأعراف.
3- الآية: 73 من سورة هود.
4- الآية: 2 من سورة مريم.
5- الآية: 50 من سورة الروم.
6 و 7 – الآية 32 من سورة الزخرف.
ومن اهتم برسم المصحف من أهل الاختصاص اجتهد في ذلك ، فقال: إن كلمة رحمة عندما تأتي موافقة للأصل ، أي بالتاء المربوطة ، إنما تعني تلك الرحمة التي ادخرها الله تعالى لعباده في الٱخرة.
أما إذا أتت على غير الأصل فهي تعني تلك الرحمة التي فتحت لأصحابها ليأخذوا منها نصيباً في الدنيا قبل الآخرة ، ومن يتأمل المواضع السبعة يدرك وجاهة هذا القول.
ما أريد قوله وما من أجله كان هذا المقال: إن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم تجسدت في شخصه الكريم الرحمة بكل معانيها ، فكان رحمة في حله وترحاله ، في سلمه وحربه ، كان رحمة لأحبابه وأعدائه ، لمن معه ومن عليه ، كان رحمة للجن كما للإنس ، رحمة للحيوان كما للشجر والحجر ، كان رحمة للعالمين.
وتأتي كلمة رحمة في قوله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة” بالتاء المضمومة ، وإن كان الكثيرون قد اغترفوا من معينها ، لتبين أن ما سيظهر للعالمين من رحمته وشفاعته يوم القيامة يفوق كل تصور.
نعم كان رحمة ومن ثَمٌ قُصِرت رسالته عليها وحُصرت فيها ، رحمة يلمسها كل من تعامل معه ، ويشعر بها كل من اقترب منه ، ويعيشها كل من خالطه.
رحمة ظل عمره الشريف محاولاً غرسها في القلوب ، وساعياً لنشرها بين العالمين ، مبشرأ كل من صارت صفةً له برحمة الرحمن الرحيم: “الراحمون يرحمهم الرحمن” ، ومنذراً من تجرد عنها بالشقاء: “لا تنزع الرحمة إلا من شقي”.
رحمة ضمنت لكل من تحركت في قلبه ، وتحكمت في جوارحه وأفعاله الجنة مهما بلغت ذنوبه ، أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى غفر لبغيٍ عندما نبض قلبها بالرحمة وتحركت فيه العاطفة تجاه أحد مخلوقات الله ، فعطفت على كلب فسقته.
أيضاً أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن امرأةً استوجبت النار بقسوة قلبها على هرة حبستها ، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
من هنا نقول: سار على نهجه صلى الله عليه وسلم كل رحيم رقيق القلب ما كان ذنبه دون الشرك ، وتخلف عن ركبه كل قاسٍ غليظ القلب مهما كان عمله. لأن صاحب القلب القاسي بعيد من الله بعيد من الجنة قريب من النار ، عملاً بحكمه صلى الله عليه وسلم في قوله: “من لا يَرحم لا يُرحم” (متفق عليه).
إن المسألة عند الله تعالى مسألة قلوب أكثر منها مسألة أعمال ، وإن الرجل الرحيم يصير قليل عمله كثيراً ، وخفيفه ثقيلاً ، أما قاسي القلب ميٌت الفؤاد مقتول الحس فلا ينفعه عمل ولا تقبل له طاعة ، ذلك لأن القلوب هي محل نظر الله تعالى: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” (صحيح مسلم).
نسأل الله تعالى أن يهب لنا رحمة من عنده تلين قلوبنا وتحيي أفئدتنا وتجعلنا من الرحماء الذين يستحقون رحمة رحمن الدنيا والآخرة.
وصل الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.