دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب :عفو غالب على مغلوب وصفح منتصر عن مهزوم

“فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين” (المائدة: 13).

قول كريم من رب أكرم اشتمل على أمرين لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما: العفو ، والصفح. بهما يتميز المسلم عن غيره ، وبهما يعرف تابع ذلك الرسول من مخالفه ، وعليهما مدار السنة النبوية المشرفة.

جاء هذان الأمران خلال الحديث عن قوم نقضوا الميثاق مع ربهم فاستحقوا لعنته ، فقست قلوبهم ، وحرفوا كلام الله عن مواضعه ، وأهملوا كل ما أمرهم الله به ، وورّثوا الخيانة والغدر لكثير من أبنائهم ، وما تركوا رسولاً إلا قتلوه فإن لم يتكنوا من قتله حاربوه وآذوه ، ومع هذا كله يأمر الله تعالى نبيه بالعفو والصفح عنهم.

وإذا كان العفو: ﻋﺪﻡ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ اﻹﺳﺎءﺓ ﺑﻤﺜﻠﻬﺎ. فإن اﻟﺼﻔﺢ: ﺗﺮﻙٌ ﻟﻠﻮﻡ ﻭاﻟﻤﻌﺎﺗﺒﺔ.

لذا ﻗﺎﻟﻮا: اﻟﺼﻔﺢ ﺃﻋﻠﻰ ﺭﺗﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻔﻮ، ﻷﻥ اﻟﻌﻔﻮ ﺗﺮﻙ اﻟﻤﻘﺎﺑﻠﺔ ﺑﺎﻟﻤﺜﻞ ﻇﺎﻫﺮا. ﺃﻣﺎ اﻟﺼﻔﺢ ﻓﻬﻮ ﻳﺘﻨﺎﻭﻝ اﻟﺴﻤﺎﺣﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻭاﻋﺘﺒﺎﺭ اﻹﺳﺎءﺓ ﻛﺄﻥ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻓﻲ اﻟﻈﺎﻫﺮ ﻭاﻟﺒﺎﻃﻦ.

ومما يدعو للتأمل أن هذين الأمرين أمر الله تعالى المسلمين أن يتحلوا بهما حتى مع من كانت غاية أمانيهم ردّهم عن دينهم حسداً من عند أنفسهم ، بعد تبين الحق ووضوحه لهم ، “ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره” (البقرة: 109).

بهذا جاء الكتاب وبه نزل ، وبهذا عاش نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبه أمر ، ومن هنا كان مدار سنته الشريفة الحقيقية على ثلاثة أمور ، هي:

الأمر الأول: تحمل الأذى.
الأمر الثاني: الصبر على الأذى.
الأمر الثالث: العمل على منح الخير لكل الناس بما فيهم من أذى.

ومن يقرأ سنته متأملاً ، ويطالع سيرته متدبراً ، يتبين له صحة ذلك.
فقد عاش صلى الله عليه وسلم متحملاً لأذى غيره ، أوذي وعودي وشُتم وسُبّ ، فلم يشكو إلا لربه ، وعندما كان يشكو لربه من آذوه يختم شكواه بالدعاء لهم وينسبهم إليه ويلتمس المعذرة لهم ، فكثيرا ما كان يدعو ربه بقوله: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.

عندما عاد من الطائف مكلوماً حزيناً ، منعه عتاة مكة ومجرموها من دخولها وحالوا بينه وبين الراحة بمنزله ، نزل عليه ملائكة السماء طائعين لأوامره مستئذنيه للانتقام من هؤلاء الجبابرة ، فقال قولته الشهيرة ودعاءه المعهود: “لا إني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يشهد أن لا إله إلا الله ، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.

تمر السنون وتمضي الأيام وتتغير الأحوال ، وإذ بالضعيف يصير قوياً ، وبالمطرود يعود فاتحاً ، فيعود من خرجوا متسللين لوازاً ، مستترين بظلام الليل ، يعودون في وضح النهار فاتحين منتصرين ، ويُمكنوا من رقاب قوم لطالما أذلوهم وقهروهم وسارعوا في كل ما يؤذيهم.

فماذا كان موقفه صلي الله عليه وسلم منهم؟.
كان موقفاً يليق بمثله ممن بُعثوا ليُعلموا الناس العفو والصفح ، “ماذا تظنون أني فاعل بكم ، قالوا: خيرا. أخ كريم وابن أخ كريم ، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء”.

لم ير التاريخ على مداره عفو غالب على مغلوب ولا صفح منتصر عن مهزوم مثل هذا ولا قريباً منه. إنه عفو وصفح محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا عن تحمله للأذى وصبره عليه ، أما عن عمله على منح الخير لكل الناس بما فيهم من آذوه وتآمروا على قتله ، فحدث ولا حرج ، وما موقفه مع عبد الله بن أبي شيخ المنافقين بخافٍ على الكثيرين ، ذلك الرجل الذي آذاه في عرضه ولم يترك مناسبة إلا وتآمر وحرّض عليه ، ومع ذلك كله عندما يموت هذا الرجل يعطيه الرسول قميصه كفناً له ويستغفر له ربه أكثر من سبعين مرة على الرغم من معارضة بعض الصحابة لذلك.

روى البخاري في صحيحه بسنده ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﻗﺎﻝ: ﻟﻤﺎ ﺗﻮﻓﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ، ﺟﺎء اﺑﻨﻪ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻓﺴﺄﻟﻪ ﺃﻥ ﻳﻌﻄﻴﻪ ﻗﻤﻴﺼﻪ ﻳﻜﻔﻦ ﻓﻴﻪ ﺃﺑﺎﻩ، ﻓﺄﻋﻄﺎﻩ، ﺛﻢ ﺳﺄﻟﻪ ﺃﻥ ﻳﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻡ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻟﻴﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻡ ﻋﻤﺮ ﻓﺄﺧﺬ ﺑﺜﻮﺏ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻗﺪ ﻧﻬﺎﻙ ﺭﺑﻚ ﺃﻥ ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ؟ ﻓﻘﺎﻝ: “إﻧﻤﺎ ﺧﻴﺮﻧﻲ اﻟﻠﻪ ﻓﻘﺎﻝ: {اﺳﺘﻐﻔﺮ ﻟﻬﻢ ﺃﻭ ﻻ ﺗﺴﺘﻐﻔﺮ ﻟﻬﻢ، ﺇﻥ ﺗﺴﺘﻐﻔﺮ ﻟﻬﻢ ﺳﺒﻌﻴﻦ ﻣﺮﺓ} [ اﻟﺘﻮﺑﺔ: 80] ، ﻭﺳﺄﺯﻳﺪﻩ ﻋﻠﻰ اﻟﺴﺒﻌﻴﻦ.

وبعد فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي سنته فمن أراد ورود حوضه وحصول شفاعته فليستنّ بسنته ويلتزم منهجه وليتخلّق بأخلاقه وليكون صورة حيّة تنعكس عليها أخلاق نبيه صلى الله عليه وسلم.

فاللهم أعنا على حسن التأسي به وجميل الأخذ عنه وأمانة البلاغ عنه ، وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى