منوعات

هاجر ابوشعيشع تكتب : البنت وامها

البنتُ التي احتفظتْ بأُمِّها في قميصٍ صوفيٍّ أزرق:لم يكُن مُفاجئًا أن يصلَ بها الأمرُ إلى حدِّ الكلامِ مع نفسِها، لقد كانَ صمتُها منذُ نيسان وحتّى كانون الثَّاني فاتحًا بابَ الاحتمالاتِ السِّيئةِ على مصراعَيه، وعلى كُلِّ حالٍ لم يكنْ هناك ما يدعو للأسفِ في تدهورِ أحوالِها؛ إذْ لم تكنْ مُهمَّةً ولمْ تعنِ شيئًا -أيَّ شيءٍ- لشخصٍ ما بعدَ رحيلِ أُمِّها إثرَ نوبةِ ضحك،

يقولُ أهلُ الحيِّ أنَّ زوجَها -وأبا البنتِ التي صارتْ تُكلِّمُ نفسَها- قد زارها في تلك الليلةِ بعدَ غيابٍ لعشرين عامًا هي عمرُ ابنتِها الوحيدة، ويقولون أنَّها كانت تظنُّه ماتَ أثناءَ الحرب، فلمَّا طرقَ البابَ بعدَ عشاءِ تلك الليلةِ وفتحتْ له نظرتْ في وجهِه إلى ما شاءَ اللهُ وقد كانَ ضعُفَ نظرُها من كثرةِ ما حاكتْ فساتينَ الأعراسِ لبناتِ الحيِّ- ثُمَّ رجعتْ إلى الوراءِ خطوتَين ومَشَّطتْ طولَه مرَّتين ثُمَّ رسَت عيناها أخيرًا على كتفَيه، فتناولتْ من قريبٍ أطولَ وأسمكَ إبرةٍ عندَها فسدَّدتْها إلى صدرِه حيثُ ثقبَتْ قلبَه فسُمعَتْ طرقعةٌ خاطفةٌ وخافتةٌ ثُمَّ سقطَ ذلك الجسدُ كصنمٍ كانَ مُستندًا إلى قائمٍ فأُزيلَ من ورائه،

على مرأى ابنتِها اتَّجهتْ إلى سريرِها الصَّغيرِ فمدَّدتْ رجلَيها الطَّويلتَين وقالتْ: “الآن حررتُ قلبي”، ثمَّ راحتْ تضحكُ ضحكًا طويلًا مُتواصلًا فينتفخُ جسمُها كُلُّه ويتَّسعُ القميصُ الصُّوفيُّ الذي ترتديه ليُلائمَ حجمَها على الدَّوام، وكانت تتصاعدُ من صدرِها فُقَّاعاتٌ شفَّافةٌ وتتجمَّعُ في سقفِ الغرفةِ كبالوناتِ هيليوم والبنتُ تبكي، حتَّى توقَّفتْ الفُقَّاعاتُ عن التَّصاعُدِ فجأةً وانقطعتْ ضحكةٌ في مُنتصفِها كأُغنيةٍ في مُسجِّلٍ امتدَّتْ يدٌ ما لتُطفئهُ قبلَ أن تكتمل، في تلك اللحظةِ انفثأتُ كُلُّ الفُقَّاعاتِ التي كانتْ تجمَّعت في السَّقفِ على مدارِ الثلاثين دقيقةً الأخيرة، فتبلَّلتْ ماكينةُ الخياطةِ والبنتُ وخزانةٌ في أحدِ الأركانِ وصورةٌ على الجدارِ للجدِّ والجدَّةِ والأخوال، وخمدَ الجسدُ الجالسُ على السَّريرِ تمامًا بينما ظلَّتْ العينان مُشرعتَين،

الآن، بعدَ حوالي عشرةِ أشهرٍ من تلك الحادثةِ لا يعرفُ أحدٌ ما الذي حدثَ بالضَّبطِ في تلك الليلة؛ كيف استقرَّتْ الإبرةُ في قلبِ الرجلِ الواقعِ على عتبةِ البابِ وكيفَ أماتَ الضحكُ المرأةَ الجالسةَ على السَّريرِ وتركَ عينَيها مُشرعتَين كأنَّما لتحرُسا ابنتَها ولماذا ظلَّت البنتُ -بالإضافةِ إلى الخزانةِ والصُّورةِ وماكينةِ الخياطةِ بالطَّبع- مُبتلَّةً منذُ ذلك اليومِ ولم تُفلحْ كُلُّ مناشفِ الحيِّ في تجفيفِها!

كطبيبٍ مُعالجٍ لم أستطعْ أن أجزمَ إن كانتَ البنتُ مجنونةً أو عاقلة، تكونُ مُتَّزنةً تمامًا حينَ أراها تتجوَّلُ في أروقةِ المشفى تُوزِّعُ الابتساماتِ الصامتةَ على المُمرِّضاتِ كتحايا صباحيَّةٍ عذبة، وحينَ تُعطي عجوزًا في غُرفةٍ مُجاورةٍ سُترةً حاكتْها له لتقيَه البرد، ولكنِّي عندما أراها تُمارسُ الحُزنَ بتلك الطقوسِ العاديَّةِ والغريبةِ في نفسِ الوقتِ أتشكَّكُ في صحةِ عقلِها، حينَ يُضايقُها أحدٌ -وخصوصًا إذا نعتَ أُمَّها بالقاتلةِ أو المجنونةِ- لا تحزنُ على الفور؛ بل تغتسلُ أوَّلًا وتُعطِّرُ جسدَها بماءِ الوردِ ثُمَّ ترتدي القميصَ الصُّوفيَّ الأزرقَ الذي كانتْ ترتديه أُمُّها في آخرِ ليلةٍ لها؛ قميصًا واسعًا جدًّا وطويلَ الأكمامِ لا يتناسبُ وحجمَها الضئيل، تُمشِّطُ شعرَها الفاحمَ الطَّويلَ كُلَّه إلى اليسارِ ثُمَّ تجلسُ تبكي وتمسحُ الدّموعَ في كُمَّيها بصمت حتَّى تسقطَ في النوم، في الصَّباحِ تستيقظُ في موعدِها الثَّابتِ تغتسلُ وتعودُ إلى حياكةِ القُمصانِ لرجالِ ونساءِ المشفى كأنَّ حُزنًا لم يأكُلْها بالأمس!

حينَ راحتْ تنحلُّ عُقدةُ لسانِها شيئًا فشيئًا ألقتْ لي بعضَ الجُملِ القصيرةِ عن تلك الحادثةِ وما تلاها، جُملًا مُقتضبةً بنبرةٍ مُستقرَّةٍ وعميقة، لا تبدو أبدًا كلماتٍ لا يرغبُ قائلُها في البوحِ بسواها، بل كلماتٍ هي كُلُّ ما يملكُه شخصٌ ما ليقولَه وكأنَّ قصَّتَه كُلَّها تبدو له في تلك اللحظةِ يُمكنُ تلخيصُها في جملة، مرَّةً طرقتْ بابَ مكتبي ذاتَ ظهيرةٍ لتقولَ لي دونَ أيَّةِ مُقدِّماتٍ: “كانَ على كتفَي أبي ستَّةُ نجومٍ لامعة من تلك النَّجومِ التي قالتْ أُمِّي أنَّها التمعتْ على أكتافِ الذين قتلوا أُمَّها وأباها وإخوتَها ذاتَ يوم” ثمَّ انصرفت، ومرَّةً أُخرى سألتْني: “هل تظنُّ أنَّه كانَ عميلًا سرِّيًا عندما تزوَّجَ أُمِّي أم أنَّه صارَ كذلك بعدَ تلك الليلة؟”، ما خطرَ لي لحظتَها هو احتقارُ ذلك الرّجلِ الذي غابَ كُلَّ تلك السنين في الدَّهاليزِ المُظلمةِ للنِّظامِ الغاشمِ ثُمَّ قرَّرَ أن يعودَ مُرتديًا خزيَه ظانًّا أنَّ استقرارَ المدينةِ وضواحيها تحتَ حُكمِ أسيادِه سيخلقُ له القبولَ في نفسِ زوجتِه وكأنَّ كُلَّ الذين كانت تعرفُهم لم يموتوا على أيديهم،

آخرُ تصريحاتِ البنتِ كانت أوَّلَ أمس، قالتْ لي عندما قابلتْني في الممرِّ المُؤدِّي إلى غُرفتِها: “سأرتدي قميصَ أُمِّي الليلة، عندما أرتديه لأروحَ وأجيءَ به في طولِ الغرفةِ وعرضِها أشعرُ أنِّي بنايةٌ كبيرة؛ ناطحةُ سحابٍ تنفتحُ فيها آلافُ النَّوافذِ التي تُضيءُ واحدةً بعدَ أُخرى لتطلَّ منها وجوهٌ كثيرةٌ بعضُها أعرفُ أصحابَها والبعضُ الآخرُ لا أتعرَّفُ إليهم، حينَ أرتدي ذلك القميصَ أشعرُ أنَّ أُمِّي تحتضِنُني، وتلك الأكمامُ لا تكلُّ عن امتصاصِ دموعي؛

كانتْ أُمِّي تقولُ إنَّ الدُّموعَ أثمنُ من أن تُتلقَّى في المناديلِ الورقيَّةِ ثُمَّ تُرمى في القمامة، وأنَّها مُستعدَّةُ على الدَّوامِ لتلقِّي دموعي بما يليقُ بها مهما كثرت”،

في الصَّباحِ كانتْ البنتُ مُطبقةَ جفنيها، مُبتلَّةً كما كانتْ دائمًا، وهامدةً كما لم تكُن من قبل، كانَ كُمَّا القميصِ الصُّوفيِّ الأزرقِ يبدوان مُشبَّعَين وفائضَين بالدموع، لكنِّي حينما عصرتُهما لم تسقُط دمعةٌ واحدةٌ على الأرض؛ ذلك أنَّ الأُمَّهاتِ لديهنّ مُتَّسعٌ هائلٌ من القُدرةِ لاحتواءِ دموعِ بناتهنّ الثَّمينة.
Yoast

زر الذهاب إلى الأعلى