د. حسنى ابوحبيب يكتب : من رزق التسليم نال النعيم
“من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه” [البقرة: 112].١١إن من أعظم نعم الله على عبده نعمة الإسلام ، والإسلام على وجه الحقيقة هو عين التسليم والاستسلام للملك العلام ، فمن أصبح مسلما بهذا المعنى سلم من الهم ونجى من الغم ، لأنه فوض الخبير أمره ، ووكل العليم شئونه ، ومن كان كذلك فهو الفائز حقا ، فمن رزق التسليم نال النعيم ، ومن سلّم سلم ، وقديما قال العارفون: لا تدبرن لك أمرًا فأولي التدبير هلكى ، وفوض الأمر إليه تجده أولى بك منك.
ولا ريب أن أقرب الطرق التي بها يصل السالك إلى ربه هو التسليم ، فهو سُلّم الوصول ، وسبب القبول ، وأكثر من وصلوا سلكوا طريقه ، وساروا دربه ، وعلى رأس الواصلين بالطبع أولئك المصطفين الأخيار من رسل الله وأنبيائه ، فقد ضربوا أروع الأمثلة في حسن تسليمهم لربهم وصدق توجههم إليه ، فحَسُنت عاقبتم وتم أمرهم ، وأعظم التسليم ما كان في الأمور التي تخالف الطبع وتعاند الهوى وتضاد الإلف والعادة.
إن سيدنا نوحاً عليه السلام شيخ الأنبياء عندما أمره ربه ببناء السفينة كان يعيش في بيئة صحراوية ، لا بحار فيها ولا أنهار ، لكنه مع ذلك أذعن بالتسليم لأمر مولاه ، فسارع في بنائها ولم يأبه بسخرية قومه منه ، فثقته بمولاه حجبته أن يلقي بالاً لمن سواه ، “وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ” [هود: 38]. ثم اجابهم بقوله: “فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ” [هود: 39]. فكان الأمر على ما توعدهم به ، فأُغرقوا وأصبحوا للناس آية ، “وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً” [الفرقان: 37].
كذلك كان أبو الأنبياء في تسليمه واستسلامه أمة وحده ، حتى وصفه الله بقوله ، “إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً” [النحل: 120] . فكان عليه السلام جامعاً للتسليم من أطرافه ، فما نزل به من البلاء لو نزل بالراسيات لأزالها ، أو بالأرض لأمادها ، أو بالبحار لأغاضها ، ومع ذلك فقد سلّم واستسلم وسل سكينه ليذبح وحيده ، ولو أُمر بذبح نفسه لكان أهون ، فكان تسليمه سبب وصوله ، وبالبلاء كان الفداء ، “فَلَمّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ” [الصافات: 103 : 107]. فبان بعد التسليم أن المراد بالذبح هو ذبح التعلق وقتل الهوى وترك كل ما يصرف عن الله ولو كان ولدا.
ثم بعد أبي الذبيح تأتى أم الكليم عليهم السلام لتضرب لنا المثل في التسليم والاستسلام ، فها هي تُؤمر بإلقاء رضيعها في البحر متى خافت عليه ، مخالفة هواها مذعنة لمولاها ، “وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ” [القصص: 7].
أرأيتم لو أن أمّاً قيل لها إذا خفت على وليدك فاطرحيه في البحر ، كيف يكون ردها ؟! ، لكن تلك المرأة العظيمة ما كان لها إلا أن أطاعت وحي ربها فكانت العاقبة لها ، فردّ الله عليها ولدها وعجّل لها أجرها ، فأصبحت ترضع ولدها وتأخذ من عدوه أجرها ، “وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ” [الطلاق: 3] ، “فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ” [القصص: 13].
أما سيد السادات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فكما هو إمام المرسلين فهو أيضاً إمام المسلِّمين ، فقد فارق _طاعة لأمر ربه_ أحب البلاد إليه ، فكانت عاقبته نصراً وتأييداً ، فما هي إلا سنوات قليلة ليست في عمر الزمن بشيء إلا عاد إليها فاتحاً ليَمُنَّ على من آذوه بالرحمة والعفو.
إن شقاء بني آدم عامة والمسلمين خاصة في عصرنا هذا ليس إلا لخروجهم عن دائرة التسليم ، فنازعوا الأمر أهله ، وأرادوا أن يسير الكون على هواهم ، وغفلوا عن مدبر الأمر مفصل الآيات ، وابتعدوا عمن بيده الأمر ، فمنه يبدا وإليه يرجع ، “وَلِلّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ” [هود: 123].
إن العبد لا يسعد إلا بالإذعان والانقياد ، ولن يفوز إلا بترك التمرد والعناد ، فمن طلب مولاه ، رضي بما قُسم له من دنياه ، وسلَّم إليه أمره في أوله ومنتهاه.
جميعنا يؤمن أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأن كل شيء في هذه الحياة بقدر ، وأنه لم ولن يقع في كون الله إلا ما أراده الله ، فالملك ملكه والأمر أمره والخلق خلقه ، بيده مقاليد كل شيء ، وقد قسم الأرزاق على خلقه قبل أن يخلقهم ، وأنه لن يذهب رزق أحد لأحد ، ولن يأخذ أحد مكان او مكانة أحد ، فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف ، ومع إيماننا بهذا تجد ضعاف الكثيرين من ضعاف اليقين يمكرون ويكيدون ، يُسهرون ليلهم ، ويشغلون نهارهم بأوهام جلبت عليهم الهموم والأحزان ، ومهما فعلوا لن ينالوا غير ما قُدّر لهم ، ولله در الإمام علي رضي الله عنه إذ يقول:
ما لا يكون فلا يكون بحيلة * أبدًا وما هو كائن سيكون
سيكون ما هو كائن في وقته * وأخو الجهالة متعب مخزون
يسعى القوي فلا ينال بسعيه * حظا ويحظى عاجز ومهين.
ما أريد قوله أن المؤمن العاقل يجب عليه ان يُسلم أمره لله وأن يكون على يقين أن ما كان ليصيبه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأنّ الكتابَ الأول سبقَ بذلك قبل بدء الخليقة ، فقد جفّ القلمُ بما يلقاه كلُّ عبد ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط.
رزقنا الله وإياكم الرضا والتسليم ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.