دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب :المتزوِّد من المال الحرام كالشَّارب من الماء المالح

قال تعالى”بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ” (هود: 86) ذلك القول الصادق جاء على لسان سيدنا شعيب عليه السلام، ذلك النبي الرقيق الأديب، بعد أن دعا قومه لعبادة الله وحده، “اُعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ”، مبيناً لهم أن ذلك التوحيد ينقضه نقص الكيل والوزن، “وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ” ، كما أنه يهدمه عدم إيفائهما حقّهما، “وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ”، ويُذهبه بالكليّة بخس الناس حقوقهم، “وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ”، وعليه فعبادة الله تعالى لا تقبل من عابد يُنقص كيله ولا يوفِّيه، كما أنها تُردُّ على من يُطفف وزنه ويتلاعب فيه.

كثيرون هم الذين ينطقون بالشهادتين ليل نهار، يُصلون ويصومون ويعبدون، لكنّ القليلين منهم من يلتزمون أخلاق تلك العبادات ويوفّونها حقّها، ظنّاً منهم أنّ الدين صلاة وصيام فقط، ولا علاقة له بدنيا الناس وحياتهم، فطالما أنَّهم صلُّوا وصاموا، وحجّوا واعتمروا، فلا غضاضة عليهم ولا تثريب في تطفيفهم الوزن أو نقصهم الكيل، لا غضاضة عليهم أبداً في أن يُصبح الكيلو عندهم ثمانمائة جرام أو سبعمائة، أو يصير اللتر عندهم سبعمائة ملّي أو حتى ستمائة، ذلك أمر طبيعي يجب أن يُستَغل نظراً لحاجة الناس إلى سلعهم، فالتجارة عندهم ليست صدقاً ولا أمانة إنما هي شطارة، وما دخْلُ الدين فيها؟!!، إنما هي عرض وطلب !!!!.

وهذا ما ظنَّه أسلاف هؤلاء من أهل مدين، حيث قالوا لسيدنا شعيب ما حكاه الله عنهم: “أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا” (هود: 87)، نعم نصلي ونصوم لكن ما دخل الصلاة بحياتنا، فلا بدّ وحتماً أن تظلَّ الصلاة حبيسة داخل جدران المساجد وأروقة المعابد، فطالما ركعنا وسجدنا وقمنا وقعدنا وجُعنا وعطشنا فليس علينا حرج أن نفعل في أموالنا ما نراه: نُرابي، نُطفف، نُنقص، نَبخس، نقامر …..، كلُّ ذلك مباح لنا حسبما تقتضيه مصالحنا كما نراها.

وغفل أولئك المساكين أو تغافلوا عن أنّ الدين الحق معاملة: بيعاً وشراءً، أخذاً وعطاءً، دَيْناً وقضاءً، عهداً ووفاءً، وما الدين غير ذلك؟!!.

ورحم الله أبا العلاء المعري إذ يقول:

ما الدين صَومٌ تذوبُ الأجساد لَهُ * وَلا صَلاةٌ وَلا صوفٌ عَلى الجَسَدِ
إِنّما هُوَ تَركُ الشَرِّ مُطَّرِحاً وَنفضُكَ * الصَدرَ مِن غِلٍّ وَمِن حَسَدِ
ما دامَتِ الوَحشُ وَالأنعامُ خائِفَةً * فَرَساً فَما صَحَّ أَمرُ النُسكِ لِلأَسَدِ

غفلوا عن أنّ بقيت الله خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، وجهلوا أنّ رزق الله الحلال هو الذي فيه السعادة كلُّها في الدنيا قبل الآخرة، وأن المتزوِّد من المال الحرام لا يشبع أبداً مهما بلغ ماله، وكلّما زادت ثروته كلّما زاد طمعه، كالشَّارب من الماء المالح كلّما ازداد شرباً كلّما ازداد عطشاً، وهذا ما بيّنه رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، في حديثه مع حكيم بن حزام عندما أعطاه يوم حُنين، فطلب منه الزيادة، فزاده، فطلبها ثانية، فزاده، فطلبها أخرى، فزاده، ثمّ قال له مربِّياً ومعلِّماً: “إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى” (صحيح البخاري)، نزلت هذه الكلمات الشافية على قلب حكيم نزول الغيث على الأرض الجدبة فأنبتت قناعةً وورعاً وزهداً، فقال حكيم: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا، حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللّه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حتى توفي.

فآخذ الدنيا بغير حقّها لا تسعه الدنيا كلها، ولا يمكن له أن يسعد فيها أبداً، ولا يشبع منها أبداً، والمتأمل الآيات التي حكت لنا خبر أهل مدين، يرى أنّهم كانوا أغنياء موسرين، يدلُّ على ذلك قول شعيب لهم: “إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ” (هود: 84)، إذن لم يكونوا في حاجة إلى تطفيف أو بخس، لكنَّ كاسب الحرام يأكل ولا يشبع، وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا بُورِكَ لَهُ فِيهَا، وَمَنْ أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا فَمَثَلُهُ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيْلٌ لِلْمُتَخِوِّضِ فِي مَالِ الله وَمَالِ رَسُولِهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (المعجم الأوسط للطبراني).

نعم ويلٌ للمتخوضين في مال الله ومال رسوله، عقابهم ألّا يشبعوا أبداً، وقلَّما يهتدون، لذا نرى سيدنا شعيباً يدعوهم بكل الطرق، ويذكّرهم بأن ربّه رحيم ودود، وأنّ ما أعدّه الله تعالى لهم خيراً لهم، وأنّه يخاف عليهم عذاب يوم محيط، وأنه لا يريد إلا صلاحهم وصلاح أحوالهم، وأنه يخاف عليهم أن يصيبهم من العذاب ما أصاب المكذّبين من قبلهم، قوم نوح وعاد وثمود، ومع ذلك لم تُجْد تلك النصائح معهم شيئاً، لا لشيء إلا لأن أجسادهم نبتت من أكل السحت وكسب الحرام، وما كان كذلك فمآله لا ريب إلى النار، قال صلى الله عليه وآله وسلم : “إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ” (سنن الترمذي).

ومن ثَمَّ فإننا ندعو تجّارنا إلى تقوى الله ومراقبته في كيلهم ووزنهم، ونُذكِّرهم بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: “التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (سنن الدار قطني)، وقوله: “ما أملق تاجر صدوق” ، وأنّ بقيت الله خير لهم إن كانوا مؤمنين، ونُذكِّرهم بما فعله سيّد التجار سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه عندما أصابت المسلمين مجاعة عام الرمادة، حتى لم يجد أهل المدينة قوتهم، وفي تلك الأثناء أتت من الشام قافلة لسيدنا عثمان من ألْفُ بعيرٍ قد وُسِقَتْ بُرّا وزيْتا وزَبِيباً، فما إن وصلت وسمع التجار بها حتى توافدوا عليه لشرائها، وعرضوا عليه أن يُربحوه بالدرهم درهمين وزيادة، وهو يرفض قائلاً: أُعطيتُ أكثر من هذا، حتى قالوا له: يا أبا عَمْرو، ليس في المدينة تجَّارٌ غيرنا، وما سَبَقَنا إليك أحدٌ، فمن الذي أعطاك أكثر مما أعطينا؟!. فقال: إنَّ الله أعطاني بكلِّ درهم عَشَرَةً، فهل عندكم زيادة؟. قالوا: لا. فقال: إنِّي أُشْهِدُ الله تعالى أنِّي جَعَلْتُ ما حمَلَتْ هذه العِيرُ صدقةً على فُقَرَاءِ المسلمين لا أبتغي من أَحَدٍ دِرْهَماً ولا ديناراً، وإنَّما أبتغي ثواب الله ورضاه.

في المقابل نرى أنّه من واجبنا نحوهم وحقّهم علينا أن نُحذِّرهم من النهاية التي حاقت بأهل مدين لمّا طففوا وبخسوا، وزادوا ونقصوا، “فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ” (الأعراف: 91 ، 92). ونذكِّرهم بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: “بِئْسَ الْعَبْدُ الْمُحْتَكِرُ، إِنْ أَرْخَصَ اللهُ الْأَسْعَارَ حَزِنَ، وَإِنْ أَغْلَاهَا اللهُ فَرِحَ” (المعجم الكبير للطبراني)، وبقوله: “التُّجَّارُ هُمُ الْفُجَّارُ، التُّجَّارُ هُمُ الْفُجَّارُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ فَيَكْذِبُونَ، وَيَحْلِفُونَ فَيَأْثَمُونَ” (المستدرك للحاكم).

نعم إنَّ مصرنا تعيش أزمة اقتصادية نتيجة لما يمرّ بمنطقتنا العربية من قلاقل، ولن يُخرجنا منها إلا التراحم والتضامن، والإكثار من الاستغفار والصدقات وأعمال البر، واليقين بأن السعادة لن تأتي إلا بالمال الحلال، وأن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى، وأنّه كما قال صلى الله عليه وسلم: “لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، ولكنَّ الغنى غنى النفس” (متفق عليه).

وأختم بقول سيدنا المسيح عليه السلام: “خادمي يداي، ودابتي رجلاي، وفراشي الأرض ووسادي الحجر، ودفئي في الشتاء مشارق الأرض، وسراجي بالليل القمر، وإدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، وفاكهتي وريحاني ما أنبتت الأرض للوحوش والأنعام، أبيت وليس لي شيء، وأُصبح وليس لي شيء، وليس على وجه الأرض أحد أغنى مني” (العلامة المجلسي: بحار الأنوار).

فاللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك. وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى