د.سونيا الهلباوي :للفارابي الفضل الأول في إقامة ركائز ما عُرِف بنظرية النبوة
قالت الدكتورة د سونيا لطفي الهلباوي استاذ العقيدة والفلسفة المساعد بجامعة الازهر أن ضرورة الاتصال ما بين الإنسان والملأ الأعلى مما تقره الفِطَر السليمة، وتُجمع عليه العقول السالكة سبل الهداية، فما من أمة إلا وهي بحاجة إلى مُعَرِف برب العالمين، مُبَلِغ عنه، تتجلى من خلاله مظاهر الرحمة الإلهية، وتنكشف به الحقائق العالية التي مهما سعى الإنسان إليها لا يتلقاها إلا من باب النبوة، فأتم الله إنعامه على العالمين بصفوة خلقه وخاصتهم: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)فاختارهم واصطفاهم وصنعهم على عينه. لم يختلف في ذلك صاحب ملة، ولا مقر بسنة الله في خلقه. بيد أن مورد الخلاف جاء من ناحية التصور العقلي لحقيقة الاصطفاء، وكيفية الاتصال. ولقد شغلت هذه المسألة العقول سواء في زمان الأنبياء أو بعد زمانهم
أضافت في كلمتها باليوم الختامي لاحتفالية الفارابي بالأزهر الشريف، أن من أكثر الفلاسفة الذين اهتموا بهذه القضية إثباتًا ودفعًا للشبه الواردة عليها هو أبو نصر محمد الفارابي، الذي يرجع إليه الفضل الأول في إقامة ركائز ما عُرِف بنظرية النبوة، وفي طريقته في الاستدلال على إمكان الاتصال والتلقي من الملأ الأعلى (الوحي).
ورغم أن معالجته لهذه المسألة تُعَد من أكثر ما يميز فلسفته، بل الفلسفة الدينية بصفة عامة، إلا أنها وللأسف قد لاقت من النقد أكثر ما لاقت من البحث الموضوعي، رغم الحاجة الملحة إلى هذا المنهج الذي يخاطب عقل الإنسان وفطرته، خاصة في زماننا هذا.
موضحة أن الإشكالية الفكرية التي تتوجه إلى منهج الفارابي في إثبات النبوة تتلخص في ظنية ورود التعارض بين الاصطفاء الإلهي وبين القول بانطباع نفس النبي بخواص تمكنها من الاستعداد لقبول الوحي؛ حيث يلزم على القول بتحقق النفس النبوية بهذه الخواص إمكان حصولها في النفوس كافة، مما يقدح في مفهوم الاصطفاء والوهب الذي أولاه المتكلمون وخاصة الأشاعرة عناية كبيرة، مؤكدين على أهمية هذا المعتقد في ثبوت عقيدة ختم النبوة وإثبات الاختيار والمشيئة الإلهية.
ولكن هذا الأمر كان بحاجة إلى تحقيق النظر في كلا المنهجين؛ لأننا بذلك يمكننا درء هذا التعارض المظنون، وتحديد المفاهيم لما يستخدمه كل من الفارابي والأشاعرة ليتبين وجه المقاربة بينهما من جهة، ومن جهة أخرى يتبين أهمية الطريقين في إثبات النبوة ودفع ما يرد عليها من شبه عقلية أو طبيعية، فالمنهج الإلهي والواقع المعرفي الآن يتطلبان تنوعَ المسالك في إثبات العقائد، فلم يعد الإقصاءُ الفكريُ وسيلة للتعامل مع اختلاف المسالك أو تعثر إدراكها على البعض
وبناء على ذلك وجدت أنه من الضرورة تحريرُ محل النزاع المظنون ما بين الفارابي والأشاعرة، وبصفة خاصة لدى الإمام أبي حامد الغزالي الذي اعتبره البعض الناقد الأكبر للفارابي وللفلاسفة بصفة عامة. الأمر الذي استدعى كشف الخفاء عن منهج مهم من مناهج المتكلمين في الاستدلال على قضايا الاعتقاد التي لا تعرف بداية بالنقل، وهو طريقتهم في الاستدلال من طرفي الإمكان العقلي والوقوع الفعلي؛ فبينما لا يعلم الثاني إلا من النقل، لكن الطريق الأول يَحِلُ إشكالية تعقل الوحي.
ومن ثم تتضح الغاية المرجوة من هذا البحث ببيان أوجه التقابل بين الاصطفاء والطبع ودرء إشكالية التداخل المفاهيمي بينهما، وهل يلزم عن اختصاصِ الله عبادَهُ المصطفين بخواص تمكنهم من تحمل الرسالة القولُ بالاكتساب الذي لا يعتقد به صاحبُ ملة صحيحة فضلًا عن فيلسوف بقدر الإمام أبي نصر الفارابي.
وأختتمت كلمتها قائلة : أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا العملَ قد ساعدَ في بيان حقيقة منهج الفارابي في النبوة ودفع بعض الإشكالات الشائعة، والتي كانت سببًا في حرمان واقع الفكر الإسلامي من مثل هذه المناهج الثرية الموجودة في تراثنا الإسلامي الفلسفي.