دين و دنيا

د. حسنى ابو حبيب يكتب : كفر النعم

“إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ” (فاطر: 41).
يُعدّ ذلك القول الكريم بياناً لقدرة الله تعالى وعظيم حلمه وبالغ لطفه وسعة مغفرته ، فهو سبحانه حليم لا يعجل ، وغالب لا يعجز ، غلبت رحمته غضبه كما سبق إحسانه انتقامه ، فمهما يقع من عباده من تقصير أو تجاوز ، أو حتى جرأة منهم عليه وسوء أدب معه ، فهو مع ذلك يعفو ويصفح ، ويحلم ويغفر “إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا” (فاطر: 41).

جاء ذلك البيان بعد أمر الله تعالى لرسولنا الكريم بأن يسأل أولئك الكفرة الفجرة الذين اتخذوا الشركاء والوسطاء من دونه تعالى ماذا خلق هؤلاء الشركاء من الأرض ، وليسألهم كذلك هل لهم نصيب في خلق السماوات ، أم لديهم كتباً تبرر لهم ذلك ، ثم بين وعود أولئك الظلمة لبعضهم البعض بالنصر على الموحدين والكيد لهم ومحاولة إلحاق الضرر بهم وبدولهم بأنها وعود كاذبة ، أهلها مغرورون خاسرون ، “قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍ مِّنْهُ ۚ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا” (فاطر: 40).

ولقد ذكّرنا ما وقع أمس (الاثنين: 6 / 2 / 2023م) من زلزال مدمر في سوريا وتركيا راح ضحيته المئات من القتلى والألاف من المصابين بذلك القول الكريم ، كما ذكّرنا بمدى حلم ربنا وواسع مغفرته ، لا سيما بعد أن ابتعد كثير من خلقه عنه ، وبارزوه بالمعاصي بل وحاربوه وحزبه ، بعد أن غرتهم قوتهم.

إن المراقب لما وصل إليه العالم اليوم يرى أنه يسير إلى نهايته ، ويسرع الخطى نحو حتفه ، بعد أن تجرأ على الله ورسله ، فما من قوم يزعمون أنهم أتباع رسول إلا وأساؤا إليه واستغلوا اسمه فيما لا يرضيه ، يكاد يكون ذلك قسمة بين اليهود والنصارى والمسلمين ، إلا من رحم ربي ، “وقليل ما هم”.

فمن يدّعون أنهم أتباع موسى عليه السلام ، يسعون جاهدين في السلب والنهب والسطو وتخريب العامر ، وترويع الآمن ، وسفك الدم وهتك العرض ، كل ذلك يفعلوه باسم التوراة ، وهي من كل ذلك بريئة.

ومن يدّعون اتباع المسيح عليه السلام ، يفعلون مثل ذلك لكن بطرق مختلفة ، فلكم سعوا قديما وحديثاً بالفتنة بين الدول ، فنهبوا خيراتها ، وأشعلوا حروباً ذهب الملايين من البشر ضحايا لها ، وربما فعلوا ذلك باسم المسيح أو الإنجيل وهما بريئان من كل هذا تماماً.

أما المسلمون فقد ابتعدوا كذلك عن هدي نبيهم وشغلتهم العاجلة عن الآجلة ، فاهتموا بالفاني ونسوا الباقي ، كثر منهم كفر النعم كما قل عليها شكرهم ، فتفرقوا واختلفوا وأصبحوا شيعاً وأحزاباً ، فتركوا الاعتصام إلى الخصام ، ولو أن الله تعالى أمرهم بالفرقة لما أطاعوه على هذا النحو ، فحق عليهم ما أصبحوا عليه.

إن أكثر شيء يهدد أمتنا وأوطاننا هو كفر النعم وعدم شكر المنعم عليها ، تسير بين الناس فلا تسمع منهم إلا شكواهم لخالقهم ، فإذا ذهبت ترقب ما لديهم من نعمه عليهم تجدها لا حصر لها من صحة وأمن واستقرار ، عافاهم الله تعالى في أبدانهم وأمّنهم في سربهم وعندهم أكثر من قوت يومهم ، ومع ذلك حجبهم الكفر عن الشكر ، وحرمتهم الذنوب عن رؤية ما بهم من عيوب ، وهذا كله نذير شؤم ، وسبب للهلاك ، “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” (النحل: 112).

يأتي ذلك الزلزال ليذكرنا بفضل ربنا علينا وحلمه بنا وعفوه عنا ، يأتي ليذكرنا بنعم عظيمة نسيناها كما نسينا شكرها ، فلا تكاد ترى أحداً يشكر ربه على أن أمسك له الأرض من تحته فلا تميد به ، وحفظه عليها فلم تبتلعه في جوفها ، ولا تكاد ترى أحداً شكر الله تعالى على أن أمسك السماء من فوقه فلا تقع عليه ، إلى غير ذلك من نعم جليلة نرفل فيها ولا نؤدي شكرها.

عباد الله اشكروا ربكم واحمدوه على نعمه كي تدوم لكم فبالشكر تدوم النعم ، وكفوا عن شكواه لغيره ، فالشكوى لغيره مذلّة ، وفوق ذلك لا تجدي ، ولن يكترث لها أحد.
شكوت ما بي إلى هند فما اكترثت * يا قلبها أحديد أنت أم حجر.

ؤأختم بقول الشاعر:
إلهي عَلَى كلِّ الأمورِ لَكَ الحمْدُ * فليس لما أوليت من نعمٍ حدُّ
لك الأمرُ من قبل الزمانِ وبعدهِ * ومالكَ قبلٌ كالزمانِ ولا بعدُ.
أدام الله تعالى علينا نعمه ورزقنا شكرها وجعلنا من الشاكرين الحامدين

زر الذهاب إلى الأعلى