د. حسنى ابوحبيب يكتب : سلطان الدنيا وفردوس الارض

“والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة” (المؤمنون: 60).

المؤمن لا يكافؤ خوفه من ربه إلا رجاؤه فيه ، فهو خائف راج ، راغب راهب ، فلولا رجاؤه لقتله خوفه ، وهذه صفات النبيين والصديقين والصالحين ، قال تعالى: “إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً” (الأنبياء: 90).

ورحم الله زماناً كان المسلمون فيه كلما كثرت طاعاتهم كلما زاد خوفهم ، وعلى قدر رفع الله لهم يكون تواضعهم وإخباتهم.

والقول الكريم الذي عنونا به مقالنا هذا يذكر لنا حال أقوام يتقربون بالطاعات ويسارعون في الخيرات وما تركوا صالحاً إلا فعلوه ولا منكراً إلا اجتنبوه ، فهم دائموا التقرب سلباً وإيجاباً ، ومع ذلك وجلة على الدوام قلوبهم.

لما نزلت هذه الآية الكريمة التبس أمرها على السيدة عائشة رضي الله عنها ، فظنت أنهم العصاة خوفتهم ذنوبهم وأرهبتهم معاصيهم ، فسألت رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا رسول الله أهم الذين يسرقون ويزنون ويشربون الخمر وهم يخافون الله عز وجل ؟. قال: لا يا بنت الصديق ، ولكنهم هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ومع ذلك يخافون ألا يتقبل الله منهم.

ولقد كان سلفنا الصالح يجتهدون في تجويد أعمالهم وإتقانها بعد أن يزينوها بإخلاصهم ، ثم بعد ذلك يلزمهم الهم والخوف من عدم قبولها وردها عليهم ، ﻛﺄﻧﻬﻢ ﺃﻟﻤﻮا ﺑﺎﻟﻔﻮاﺣﺶ ، لذا كان خوفهم من رد العمل عليهم أشد على نفوسهم من العمل نفسه.ولقد أحسن من قال في وصف أحدهم:ﻳﺘﺠﻨﺐ اﻵﺛﺎﻡ ﺛﻢ ﻳﺨﺎﻓﻬﺎ * ﻓﻜﺄﻧﻤﺎ ﺣﺴﻨﺎﺗﻪ ﺁﺛﺎﻡ.

ﺣﺞ عاماً الإمام ﻋﻠﻲ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻴﻦ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ (المعروف بعلي زين العابدين) ، ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺣﺮﻡ ﻭاﺳﺘﻮﺕ ﺑﻪ ﺭاﺣﻠﺘﻪ اﺻﻔﺮ ﻟﻮﻧﻪ ﻭاﻧﺘﻔﺾ ﻭﻭﻗﻌﺖ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺮﻋﺪﺓ ﻭﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﺃﻥ ﻳﻠﺒﻲ ، ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻪ: ﻟﻢ ﻻ ﺗﻠﺒﻲ ؟ فقال: ﺃﺧﺸﻰ ﺃﻥ ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻲ ﻻ ﻟﺒﻴﻚ ﻭﻻ ﺳﻌﺪﻳﻚ ، ﻓﻠﻤﺎ ﻟﺒﻰ ﻏُﺸﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﻭﻗﻊ ﻋﻦ ﺭاﺣﻠﺘﻪ ، ﻓﻠﻢ ﻳﺰﻝ ﻳﻌﺘﺮﻳﻪ ﺫﻟﻚ ﺣﺘﻰ ﻗﻀﻰ ﺣﺠﻪ.

لهذا استحقوا وبجدارة أن يحوزوا قصب السبق في الدنيا والآخرة ، فوصفهم الله بقوله: “أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون” (المؤمنون: 61).

لكن لما طال الأمد وقست القلوب وتُنوسيَ الذكر ، رأينا أقواماً يطلبون سلطان الدنيا بأعمال الآخرة ، واتخذوا من دعوتهم إلى الآخرة مطية لتوصلهم إلى الدنيا ، وبدلاً من أن يكون عملهم سبيلاً لإيصالهم إلى الفردوس الأعلى ، انقلب بهم الحال فأصبح حديثهم عنه سبيلاً إلى التمتع بفردوس الأرض.

فلما أصبح حالهم على هذا النحو خسروا الدنيا والآخرة ، فلا هم نالوا الفردوس الأعلى ، ولا هم أصابوا فردوس الأرض ، “ذلك هو الخسران المبين”.

رأينا من حملتهم الطاعة على الكبر ، وحضتهم على الأمن من مكر الله وعذابه ، وجعلتهم يسخرون من أهل البلاء ويعيرونهم ببلائهم ، وكأن الله تعالى منحهم مفاتيح الجنة وأطلعهم على أهلها وفوضهم في أمرها ، وهذا أدل الأدلة وأبين البيان على أن هؤلاء طاعاتهم مدخولة ، وعباداتهم مكذوبة ، وصالحهم طالح ، وعابدهم كاذب ، وداعيهم منافق.

جاء عن سيدنا المسيح عليه السلام أنه قال: لا تنظروا إلى أفعال العباد كأنكم أرباب ، وانظروا إليها كأنكم عبيد ، فإنما الناس صنفان: مبتلىً ومعافى ، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.

كان لأبي حنيفة جار مدمن خمر ، فمات ، فرفض أبو حنيفة أن يصلى عليه ، فرآه في منامه يسرح في الجنة وهو يقول: قولوا لأبي حنيفة الحمد لله الذي لم يجعل مفاتيح الجنة بيده ، فلما أصبح ذهب لزوجة الرجل ، فقال أخبريني: ماذا كان يصنع زوجك ؟ فقالت والله ما هو إلا ما تعلم عنه ، إلا أنه كان كل ليلة جمعة يغتسل ويحمل الحلوى لأطفال الحي ويمسح على رؤوس اليتامى منهم ويقول: ادعوا الله لعمكم أن يتوب عليه.

واختم بقول القائل:
رب معصية أورثة ذلاً وانكسار * خير من طاعة أورثة عجباً واستكبارا.
ولأن يبيت الرجل نائماً فيصبح نادماً ، خير له من أن يبيت قائماً فيصبح متفاخراً.

نسأل الله أن يرزقنا العمل الصالح مع التواضع والإخبات وأن يجنبنا الكبر والعجب.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى