دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب : قوم سكن الايمان فى قلوبهم

“يحبون من هاجر إليهم” (الحشر: 9).
أولئك قوم تبوأوا الإيمان كما تبوأوا الدور ، فسكنوه قبل أن يسكن فيهم ، وعمروه قبل أن يعمر قلوبهم ، وما أدراك بقوم جعلوا الإيمان لهم بيتاً فأقاموا فيه حياتهم ، ولم يفارقوه أعمارهم ، فقضوا عمرهم بين جدرانه ، وأفنوا أيامهم وهم في جنباته.

قوم من أخص خصائصهم وأميز صفاتهم أنهم آلفون مألفون ، يحبون فلا يبغضون ، ويعفون فلا يعاقبون ، ويحلمون فلا يؤاخذون.

قوم لطالما ردد لسان حالهم قول قائلهم:
أدين بدين الحب أنٌى توجهت ركائبه * فالحب ديني وإيماني.قوم سمعوا قول رسولهم صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” فوعوه وعاشوه وعمموه على سائر خلق الله ، وعلموا أن المراد بالأخوة هنا الأخوة العامة ، أخوة الإنسان لأخيه الإنسان ، وإلا فلما كاد نبينا صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه إصراراً على هداية قوم لم يلق منهم إلا جحوداً ونكراناً ؟!! ، وما نادى على جمع إلا بقوله: أيها الناس. وأكد على هذا في أعظم خطبة له قبيل لقائه ربه بقوله: كلكم لآدم.

قوم تربوا على قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» رواه مسلم

اعلم أخي الكريم أنه كلما ازداد في نفسك حب الخير للناس وكلما دعوت لهم بظهر الغيب وكلما فرحت بالنعمة عند غيرك
وكلما أغلقت على الشيطان مداخل الحقد ومسالك الحسد ، كلما أشرقت روحك ، واطمأن قلبك ، وتذوقت طعم السعادة ، ووصلتْ رسائل حبك إلى قلوب الناس فأحبوك ، وأتتك الدنيا وهي راغمة!

ورحم الله القائل:
‏ولي إن هاجَتِ الأحقادُ قلبٌ * كقلبِ الطفلِ يغتفِرُ الذُّنوبَا
أودُّ الخيرَ للدنيا جميعًا * وإن أكُ بين أهْلِيها غريبا
إذا ما نعمةٌ وافت لغيري * فرحت كأنّ لي فيها نصيبا
تفيض جَوانحي بالحبِّ حتى * أظنّ الناسَ كلّهُمُ حبيبا.

ولا شك أن أعظم الحب وأنجعه حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وكفى به شافعاً يوم القيامة لصاحبه ، ومن علامة حب الله حب الخير لعباده ، فمن أحب صانعاً أحب صنعته ، ومن علامة حب الرسول حب الخير لأمة إجابته وأمة دعوته.

هذا هو الحب الذي يدفع ويشفع ، وينفع ويرفع ، يدفع البلاء ويشفع يوم القضاء ، ينفع في الدنيا ويرفع في الآخرة.

لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه ووضع على شفير قبره قالت امرأته: هنيئا لك أبا السائب الجنة. فقال لها الرسول وما علمك به ؟. قالت: كان يصوم النهار ويقوم الليل. فقال لها: بحسبك لو قلت: كان يحب الله ورسوله. أي حب الله والرسول يكفيه.

كما أن الحب الخالص لله ولرسوله يغلبان الذنوب وإن كانت كبارى ، جاء في مسند البزار: أن رجلاً يسمى: عبد الله ، ويلقب: حمارا ، قد جلده الرسول في شربه للخمر أكثر من مرة ، فجيء به يوماً فجلد ، فقال رجل: اللهم العنه ، ما أكثر مايؤتى به. فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله.

وأختم بقول فقيهنا الشافعي: عيسى البيانوني الحلبي:
هِمْ بالحبيبِ محمدٍ وذويهِ ** إنَّ الهيامَ بحبه يُرضيهِ
إنْ ماتَ جسمُكَ فالهوى يُحييه ** جسدٌ تمكَّنَ حُبُّ أحمدَ فيه تالله إنَّ الأرضَ لا تُبليه
طوبى لِمنْ هو في المحبَّة صَبُّهُ ** لمَ لا، ومولاهُ الكريمُ يُحبُّهُ
في القبرِ حاشَا أن يُضامَ مُحِبُّهُ ** أوَ كيفَ يأكلُه الترابُ وحُبُّهُ في قلبِه ومديحُهُ في فيهِ.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا حبه وحب رسوله وحب الصالحين من عباده وأن يدخلنا جنته من باب المحبين بفضله وكرمه وجوده ورحمته إنه نعم المولى ونعم النصير.
هذا وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

زر الذهاب إلى الأعلى