دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب : مغانم الملك

“قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ” (البقرة: 247).

إن مغانم الملك لا يعادلها إلا مغارمه، بل إن مغانمه لا تفي أبداً بمغارمه ، وأهله هم أولى الناس بالشفقة والعطف، فهم إن كانوا مالكين غير إنهم على وجه الحقيقة مملوكون، فهم المحكومون وإن بدوا في صورة الحاكمين، يجلس الواحد منهم على الكرسي ليحكم من خلاله ، لكن متى حقّقت تجده في أغلب أحيانه محكوماً به ، عبداً له ، وأسيراً لديه ، إلا من رحم ربي ، وقليل ماهم.

لذا كانت وصية رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لأحبِّ أصحابه إليه أن لا يسأل الملك ولا يطلبه ، جاء سيدنا أبو ذر يسأل حبَّه أن يجعل له شيئاً من الملك أو الإمارة فأجابه الرءوف الرحيم مكاشفاً له وناصحاً ، ألا يطلب ملكاً ولا يسعى إليه ، قائلاً له: يا أَبَا ذَرٍّ! إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا. وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي. لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ. وَلَا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم. (صحيح مسلم) ، وفي رواية أخرى: أنه صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبه، ثمَّ قَالَ له: “يَا أَبَا ذَر، إِنَّك ضَعِيف، وَإِنَّهَا أَمَانَة، وَإِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة خزيٌ وندامةٌ، إِلَّا من أَخذهَا بِحَقِّهَا وَأدّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا” (صحيح مسلم).

وعندما جاءه صلى الله عليه وسلم عمّه العباس رضي الله عنه قائلاً له: ألا تستعملني؟ فقال: “يا عباس يا عم رسول الله نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها. (مصنف ابن أبي شيبة) ، ونفس الوضع يتكرر مع عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ عندما رآه يتمنى الإمارة فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا”. (متفق عليه).

لذا كان العارفون من أهل الله تعالى وخاصته يستعفون من أعمالهم عندما يعلمون عظم شأنها وكبر إثمها ومشقّة سؤالها يوم القيامة، “فعن عَدِيِّ بْن عُمَيْرَةَ الْكِنْدِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَأَتِ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَنْ كَتَمَنَا خَيْطًا أَوْ مِخْيَطًا فَمَا سِوَاهُ، فَهُوَ غُلُولٌ يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْوَدُ قَصِيرٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْبَلْ مِنِّي عَمَلَكَ، فقال: وَمَا ذَاكَ؟ ، قَالَ: الَّذِي قُلتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا أَقُولُ الْآنَ مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَأْتِ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى” (مسند الحميدي: حديث رقم: 918).

من هنا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتواصون فيما بينهم على النصح لله ورسوله وبيان عظم مسئولية الحكم وتبعاته، حتى يتق الله كلُّ من ابتلي به ، فلا يجامل أحداً ولا يحابيه لأجل قرابة أو رجاء منفعة، جاء عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أنه قَالَ: قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بَعَثَنِي إِلَى الشَّامِ: يَا يَزِيدُ، إِنَّ لَكَ قَرَابَةً عَسَيْتَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِالْإِمَارَةِ، وذَلِكَ أَكْثَرُ مَا أَخَافُ عَلَيْكَ، فإن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: “مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ ، ومن أعطى أحدًا حِمى الله فقد انتهك في حمى الله شيئًا بغيره حقِّه، فعليه لعنةُ الله أو قال: بَرِئَتْ منه ذِمَّةُ اللَّه تعالى” (جامع الأسانيد لابن الجوزي حديث رقم ” 3306).

من ثَمَّ كان العلماء لا سيما أهل البصيرة منهم يُجلدون ويُسجنون ولا يقبلون الإمارة ولا شيئاً منها ، لمعرفتهم بتبعاتها وعظم مسئولياتها، وما أمر الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان عنا ببعيد ، ذكر أبو عبد الله الصيمري الحنفي في كتابه أخبار أبي حنيفة وأصحابه: أنه عندما أَرَادَ ابْن هُبَيْرَة أن يوليّه قَضَاء الْكُوفَة أبى وَامْتنع، فَحلف ابْن هُبَيْرَة إِن هُوَ لم يفعل ليضربنه بالسياط على رَأسه، فَقيل لأبي حنيفَة، فَقَالَ: ضَرْبَة لي فِي الدُّنْيَا أسهل عَليّ من مَقَامِع الْحَدِيد فِي الْآخِرَة، وَالله لَا فعلت وَلَو قتلني، فأمر أن يُضرب بالسياط حتى الموت، فَقَالَ أَبُو حنيفَة هِيَ موتَة وَاحِدَة، فَضرب عشْرين سَوْطًا على رَأسه، فَقَالَ له أبو حنيفَة اذكر مقامك بَين يَدي الله فإنه أذلّ من مقَامي بَين يَديك، وَلَا تهددني، فَأَنِّي أَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله سَائِلك عني حَيْثُ لَا يقبل مِنْك جَوَاباً إِلَّا بِالْحَقِّ، فَأَوْمأ إِلَى الجلاد أن أمسك، وَبَات أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فِي السجْن فَأصْبح وَقد انتفخ وَجهه وَرَأسه من الضَّرْب، فَقَالَ ابْن هُبَيْرَة: إِنِّي قد رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم وَهُوَ يَقُول لي: أما تخَاف الله تضرب رجلاً من أمتِي بِلَا جرم وتهدده. فَأرْسل إِلَيْهِ فَأخْرجهُ واستحلّه.

وهذا الفضل بن الربيع يعرض عليه أمير المؤمنين المهدي مائة ألف درهم على أن يلي له القضاء لكنه يستعفى منه، خوفاً من تبعاته. (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ج 9 ص 14 ، 15).

وهؤلاء العارفون ربما ضعفت نفوسهم في حين من الوقت، وغفلة عن الذكر، فربما سعوا إلى الإمارة وجدّوا في طلبها، لكن الله تعالى يتداركهم بلطفه فيصرفها عنهم، ولا ييسرها لهم، رحمة منه بهم وحدباً عليهم، قال ابن مسعود: إنَّ العبد ليهمُّ بالأمرِ من التجارة والإمارة حتى يُيَسَّرَ له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إنْ يسرته له أدخلتُه النار، فيصرفه الله عنه، فيظلُّ يتطيَّرُ يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله. (ابن رجب/ جامع العلوم والحكم)، وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي الراعي الشقيق غنمه عن مراتع الهلكة” (شعب الإيمان حديث رقم: 10451)، وهؤلاء هم الذين أوحى الله بهم إلى سيدنا موسى عليه السلام، قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: أوحى الله إلى موسى بن عمران يا موسى إن من من لو سألني الجنة بحذافيرها لأعطيتها له، ولو سألني علاقة سوط من الدنيا لم أعطه لع، ليس ذلك لهوان له عندي، ولكن أريد أن أدخر له في الآخرة من كرامتي، وأحميه من الدنيا كما يحمي الراعي غنمه من منابت السوء. (كنز العمال: حديث رقم: 16664)

لكن لمّا ضعف الوازع الديني لدى كثير من المسلمين، رأيناهم يتسابقون إلى الملك وطلبه، تسوقهم الرغبة ولا تصدهم الرهبة، يدفعهم الطمع ولا يمنعهم الورع، بل ربّما طلبوه بمعصية الله تعالى، وسلكوا إليه ما اعوج من الطرق، وما أظلم من السبل، فلما أدركوه شقوا به وأشقوا ، وضلوا وأضلوا، بل رأينا منهم أصنافاً يطلبونه بالدين، فيدفعون دينهم وهم راضون ثمناً لدنياهم، ألا ما أعماهم وأغفلهم، ولو أبصروا لفرّوا منه كفرارهم من شر الأعداء.

لكن يجب علينا أن نبيّن أنّ الملك والحكم ليس شرّاً إلا لمن أخذه بباطل، وسعى إليه بحرام، لكن من أخذه بحقه ولم يسع إليه أو يحرص عليه، كان بمعونة الله أولى وبتوفيقه أجدر ، فكم من ولاة للمسلمين بذلوا جهدهم في خدمة أوطانهم والحفاظ عليها والدفاع عنها، فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم غير مبخوس ولا منقوص.

نسأل الله تعالى أن يولّي أمر هذه الأمة صالحيها وأن يُصلح من تولّى لها أمراً، وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه رضاه.

زر الذهاب إلى الأعلى