آراءدين و دنيا

د. محمد السيد ابوالغيط يكتب: اليوم ذكرى قارئ الملوك الشيخ مصطفى إسماعيل

ماذا تعرف عن فضيلة القارئ الشيخ مصطفى إسماعيل (رحمه الله ) ؟قارئ قرآن مصري يعد من أبرز شيوخ التلاوة في مصر والعالم الإسلامي. كان أول قارئ يسجل في الإذاعة المصرية دون أن يمتحن فيها واختاره الملك فاروق قارئًا للقصر الملكي وكرَّمه عبد الناصر وأخذه معه السادات في زيارته للقدس، فلُقِّب بـ” قارئ الملوك والرؤساء”

أتقن المقامات وقرأ القرآن بأكثر من 19 مقامًا بفروعها وبصوت عذب وأداء قوي، وقد عُرف عنه أنه صاحب نَفَس طويل في القراءة التجويدية. سجَّل بصوته تلاوة القرآن الكريم كاملًا مرتلًا.

ترك وراءه 1300 تلاوة لا تزال تبث عبر إذاعات القرآن الكريم. ركّب في تلاوته النغمات والمقامات بشكل استحوذ على إعجاب المستمعين، وكان ينتقل بسلاسة من نغمة إلى أخرى، ويعرف قدراته الصوتية بشكل جيد، وكيف يستخدمها في الوقت المناسب

استطاع أن يمزج بين علم القراءات وأحكام التلاوة وعلم التفسير وعلم المقامات وكان يستحضر حجة القرآن في صوته ويبثها في أفئدة المستمعين لاستشعار جلال المعنى القرآني.

مولده ونشأته :ولد فضيلة الشيخ مصطفى محمد المرسي إسماعيل في قرية ميت غزال، مركز السنطة، محافظة الغربية في 17 يونيو 1905 ميلادية ( ١٣ ربيع الآخر ١٣٢٣ هــ).
وكان أبوه فلاحًا، وقد ألحقه بكتّاب القرية عندما بلغ 5 سنوات، وأتم حفظ القرآن قبل أن يتجاوز الثانية عشرة من عمره ، ثم التحق بالمعهد الأحمدي في طنطا ليتم دراسة القراءات وأحكام التلاوة، أتم الشيخ تلاوة وتجويد القرآن الكريم وراجعه ثلاثين مرة على يد الشيخ إدريس فاخر.

كان لقاء الشيخ مصطفى إسماعيل بالشيخ محمد رفعت عام 1922 فاتحة خير عليه، فبعد أن ذاع صيت الشيخ مصطفى إسماعيل في محافظة الغربية لعذوبة أدائه، التقى بالشيخ محمد رفعت في عزاء أحد الأصدقاء بالقاهرة ويدعى القصبي بك، استدعى أهل المتوفى الشيخ محمد رفعت لإحياء تلك الليلة، ولما انتهى الشيخ رفعت من قراءته ترك مكانه لهذا القارئ الشاب ليقرأ، فانبهر الشيخ محمد رفعت به وبقراءته، وطلب منه أن يستمر في التلاوة، فظل يقرأ مدة تزيد على الساعة ونصف الساعة وسط تجاوب الحاضرين وإعجابهم، ولما انتهى قبّله الشيخ محمد رفعت وهنأه ؛ وكانت إشادة الشيخ محمد رفعت بمثابة شهادة رفيعة من ” قيثارة السماء” للشيخ مصطفى إسماعيل لينطلق في سماء عظماء قراء القرآن الكريم.

التحق الشيخ مصطفى إسماعيل بالمعهد الأحمدي ، بناء على نصيحة من الشيخ محمد رفعت، ليتعلم القراءات السبع وأحكام التلاوة، ولتميز صوته حظي الشيخ بشهرة واسعة، كان كثيرًا ما يُطلب من الناس لإحياء المآتم وسهرات الذكر ويغدقون عليه بالمال الوفير، فترك الدراسة بالمعهد بعد أن تجاوز ثلثي مدة الدراسة وهو ما أغضب جده، إلا أن الأخير تفاجأ بحفيده يعطيه 30 جنيهًا ادخرها من عمله بتلاوة القرآن، ويطلب منه أن يشتري له أرضًا زراعية ” نصف فدان” بقرية ميت غزال، فشعر الجد أن حفيده أصبح رجلًا يعتمد عليه، خاصة بعد أن وعده أن يصبح في منزلة الشيخ محمد رفعت.

كان للقدر دور كبير في ذيوع شهرة الشيخ مصطفى إسماعيل في القاهرة، فقد أسندت إليه قراءة القرآن الكريم في الإذاعة بديلًا عن الشيخ الشهير ( أبو العنين شعيشع ) بناء على اختيار من الشيخ محمد الصيفي، رئيس رابطة القراء بالقاهرة، الذي أعجب بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل أشد الإعجاب، وفي ذات يوم كانت الإذاعة ستنقل حفلًا على الهواء من مسجد الإمام الحسين وسيحيي الحفل القارئ الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، إلا أنه تخلف، فما كان من الشيخ الصيفي إلا أن أجلس الشيخ مصطفى إسماعيل على دكة القراءة ليقرأ، فرفض المسئولون لأنه غير معتمد في الإذاعة فقال لهم الشيخ الصيفي: دعوه يقرأ على مسئوليتي الخاصة، وقرأ من سورة التحريم لمدة نصف ساعة وسط استجابة الجمهور، وما أن انتهى من قراءته حتى أقبل عليه الجمهور يقبّله ويعانقه، وكان ذلك بداية تعرف جمهور القاهرة على صوت الشيخ مصطفى إسماعيل مع بداية عام 1943 .

الشيخ والملك فاروق، استمع فاروق ملك مصر والسودان إلى صوت الشيخ مصطفى في الحفل الذي نقلته الإذاعة من مسجد الإمام الحسين، فانبهر به وأصدر أمرًا ملكيًّا بتكليفه ليكون قارئًا للقصر الملكي، فحاول محمد باشا سالم السكرتير الخاص للملك معرفة أية معلومات عن الشيخ مصطفى من الإذاعة، فأخبره بعض القراء بأنه قارئ مجهول لا يعرفون عنه سوى اسمه، فذهب إلى الشيخ محمد الصيفي الذي أخبره عن عنوانه.

وبينما كان الشيخ يجلس بين أهله وأولاده بقرية ميت غزال، إذ به يفاجأ بعمدة القرية ومأمور المركز يقتحمان عليه بيته ويسأله مأمور المركز بأسلوب استفزازي قائلًا: أنت مصطفى إسماعيل؟ ، فقال: نعم ، وقد ظن أنه ارتكب جرمًا كبيرًا دون أن يدري، فسأله: ما الأمر؟ ، فقال: عليك أن تذهب غدًا إلى القصر الملكي لمقابلة مراد باشا محسن ناظر الخاصة الملكية بقصر عابدين؛ فسأله الشيخ: ولماذا ؟ ، قال: لا أدري وعليك أن تنفذ الأوامر، فسافر إلى القاهرة في صبيحة اليوم التالي، والتقى ناظر الخاصة الملكية الذي هنَّأه بتقدير الملك لصوته وموهبته وأخبره بالأمر الملكي بتكليفه قارئًا للقصر لإحياء ليالي رمضان بقصري رأس التين والمنتزه بمدينة الإسكندرية.

استقر بالشيخ مصطفى إسماعيل المقام في القاهرة عام 1944 م ونزل بفندق شبرد إقامة كاملة، ولم يكن الشيخ مصطفى إسماعيل من الأثرياء، ولكنه كان يتمتع بماله، ورغبته في أن يحيا حياة رغدة هو الدافع وراء ذلك.
وعندما زادت غيرة بعض القراء من شهرة الشيخ مصطفى وأسلوبه الجديد غير المقلد وحب الناس له وثقة الملك بموهبته، خاصة بعد أن تم تعيينه قارئًا للسورة يوم الجمعة بالجامع الأزهر؛ لأن الإذاعة كانت تنقل الصلاة من الجامع الأزهر ولم يكن قد تم اعتماد الشيخ مصطفى بالإذاعة بعد ، فقالوا: كيف تنقل له الإذاعة وهو غير مقيد بها ، وكثرت الشكاوى ضده وضد وزارة الأوقاف والمسئولين عنها وتحيزهم له، فما كان من الإذاعة إلا أن أرسلت إليه وتم تحديد ميعاد لامتحانه، فاستمع إليه أعضاء اللجنة وأجازته اللجنة قارئًا بالإذاعة.

زار الشيخ مصطفى إسماعيل خمسة وعشرين دولة عربية وإسلامية وقضى ليالي شهر رمضان وهو يتلو القرآن الكريم بها، كما سافر إلى جزيرة سيلان ( سريلانكا )، وتركيا وماليزيا، وتنزانيا، وزار أيضًا ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.وزار الشيخ مصطفى إسماعيل مدينة القدس عام 1960، وقرأ القرآن الكريم في المسجد الأقصى في إحدى ليالي الإسراء والمعراج.

كان الرئيس محمد أنور السادات من المحبين لسماع صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، حتى إنه كان يقلد طريقته في التلاوة عندما كان السادات مسجونًا. كذلك اختاره ضمن الوفد الرسمي لدى زيارته للقدس سنة 1977، وهناك قام ثانية بقراءة القرآن الكريم في المسجد الأقصى.

كما قرأ في مساجد ميونخ وباريس ولندن، وكان أغلى أمانيه ألا يلقى الله إلا وهو يقرأ القرآن، وكان آخر ما دعا به ربه قبل وفاته بـ3 أشهر: ” اللهم لا تحرمني من التلاوة حتى ألقاك “، وقد تحقق له ما أراد، فكان آخر شيء فعله قبل وفاته هو تلاوة القرآن الكريم في إحدى السهرات الخارجية بمدينة دمياط.

التكريم، حصل الشيخ مصطفى إسماعيل على وسام الاستحقاق من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وعلى وسام الأرز من لبنان عام 1958، ووسام الفنون عام 1965، ووسام الامتياز عام 1985 من الرئيس مبارك، ووسام الاستحقاق من سوريا، كما حصل على أعلى وسام من ماليزيا، ووسام الفنون من تنزانيا.

وفاته: في الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة 22 ديسمبر سنة 1978 م غادر الشيخ مصطفى إسماعيل قريته ميت غزال مودعًا ابنته ومتجهًا إلى دمياط للقراءة في افتتاح جامع البحر في حضور الرئيس الراحل محمد أنور السادات.

في دمياط قرأ الشيخ تلاوته الأخيرة وبعدها طلب من السائق الرجوع إلى قريته بجوار طنطا وعند مفترق الطريق بين طنطا والمحلّة الكبرى طلب منه التوجه إلى الإسكندرية وكان مرحًا جدًا مع ” السائق ”، وعند دمنهور طلب من السائق التوقف لشراء بعض سندوتشات الفول وأكلها مع سائقه وكانت آخر ما أكل الشيخ في حياته .

توجهت السيارة إلى فيلته بحي رشدي في الإسكندرية وطلب من سائقه أن يضع المشمع فوق السيارة فتعجب السائق لهذا الطلب لأن الشيخ مصطفى كان يمنعه دائمًا من وضع هذا المشمع فوق السيارة خشية أن يتلف لونها ويلزق فيها ولما أبدى السائق دهشته قال له بالحرف الواحد: ” أنا مش طالع تاني يا سيدى “

دخل الشيخ منزله وطلب من خادمته وزوجها أن يجلسا معه في الصالون وظن زوج الخادمة أن الشيخ يريد طردهما من المنزل لأنها كانت أول مرة يدخل فيها زوج الخادمة المنزل وأبدى الشيخ حبه للاثنين وطلب منهما الحفاظ على المنزل وأن يشربا الشاي معه .

وفجأة أعرب الشيخ عن سعادته وكان يقول ” أنا جالس الآن على كرسي والعالم كله يصفق لي ” وبدت الدهشة على وجه الخادمة والشيخ يهم بالوقوف متجهًا إلى الدور الأول، حيث توجد غرفة نومه وسألته إن كان يريد النوم الآن وقال لها : ” أنا ماشي في دفنة فاطمة ( اسم زوجة فضيلة الشيخ ) لأنها ماتت ” وتعجبت الخادمة (وكانت زوجته مازالت على قيد الحياة ) وعندما وصل إلى حجرة نومه جلس على السرير ينادي ابنته التي كانت معه في طنطا، وقالت له الخادمة أنا اسمي” سرارى” ، فقال لها ” تعالي يا بنتي شوفي إيه اللي في دماغي ” وأخذ يدها بيده وحاول أن يصل بها إلى رأسه ووقعت اليدان إلى أسفل .

ظنت الخادمة أنه مرهق من السفر ويريد النوم وكان تنفسه طبيعيًا ولم تعلم الخادمة بأنه أصيب بانفجار في المخ وأن الشلل قد تسلل إلى جسده فتركته نائمًا في غيبوبة إلى اليوم التالي حتى الساعة الثانية والنصف ظهرًا وكانت تدخل عليه بين الحين والآخر وتلاحظ أنه يتنفس عاديًا فتتركه نائمًا.

اتصل أحد أصدقاء الشيخ تليفونيًا بالمنزل وسمع بالواقعة وأحضر معه الأطباء، تم نقل الشيخ إلى المستشفى بالإسكندرية وهو في غيبوبة تامة ظل بها عدة أيام إلى أن توفي في صباح يوم الثلاثاء 26 ديسمبر 1978 وأقيمت له جنازة رسمية يوم الخميس 28 ديسمبر 1978 ودفن في مسجده الملحق بداره في قرية ميت غزال بالسنطة بمحافظة الغربية.

وفى النهاية : أسأل الله تعالى منزل القرآن على عبده العدنان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتغمده بواسع رحمته وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة ، وأن يرحم كل من قرأ ولو حرفًا من كتاب الله ، وأن يرحم من كان له من ذريته قارئًا أو حافظًا لكتاب الله ولو آية واحدة ، وأن يرحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه وأن يقيض لنا من يقرأ القرآن خلفنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه

زر الذهاب إلى الأعلى