دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب : محطات للتزود

“وَتَزَوَّدُوا” (البقرة: 197).للدهر أيام وليالٍ اختصها الله بخيره ، ووهبها بركته ، ومنحها رضوانه ، وملأها برحمته ، ولفَّها بنفحات من حظي بها أو ببعضها سَعِد سعادة لا يعقبها شقاء ، وربح ربحاً لا غبن فيه.

تلك الأيام بلياليها إنما تُعدّ بمثابة محطات للتزود ، يتزود منها المؤمن بما يعينه على أمر دنياه ، ويوفقه للفوز في أخراه ، ومن ثَمَّ كان الأمر الإلهي فيها بالتزود ، “وَتَزَوَّدُوا” ، فالعاقل الفطن من تزود فيها بكل مليح ، وهجر فيها كل قبيح ، وأسلم لله وجهه ، وحلّق فوق أسوار نفسه ، وترك هواه لمولاه ، حتى يخرج من عبودية كل من سواه ، فمن أطاع هواه فقد تعددت آلهته ، وتشاكس فيه أربابه ، فحقّت خسارته وثقل يوم القيامة عليه حسابه ، “وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ” (المؤمنون: 117).

تلك الأيام هي الأيام التي نقف على أعتابها ، وهي التي أقسم الله بفجرها وليلها ، وبشفعها ووترها ، إظهاراً لعظمتها ومكانتها، ورفعاً لقدرها وشأوها، إنها أيام تتيه على ما سواها ، وحُقّ لها ذلك بما حباها به مولاها ، هي خير أيام الدنيا ، وكأنها ليست من أيامها ، فهي بما فيها من نفحات إلى أيام الآخرة أقرب ، نسماتها تحمل ريح الجنة وعبقها ، وساعاتها بما يقع فيها من شعائر ومنح كأنها اختُلست من الساعة ، من تزود منها كفته ، ومن اغترف من معينها روته ، ما أحسن التوكل على الله فيها.

والعارفون الواصلون من أهل الله وخاصته كان تزودهم منها يغنيهم ويكفيهم.

خرج ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻦ ﺩﻳﻨﺎﺭ ﺭﺿﻲ ﺍلله ﻋﻨﻪ حاجاً إﻟﻰ ﺑﻴﺖ ﺍلله ﺍﻟﺤﺮﺍﻡ ﻓﻲ ﻋﺎﻡ ﻣﻦ ﺍلأ‌ﻋﻮﺍﻡ ، فبينما هو ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ لقي رجلاً ﻳﻤﺸﻲ ﺑﻼ‌ ﺯﺍﺩ ﻭﻻ‌ ﺭﺍﺣﻠﺔ ، ﻓﺴأله من أﻳﻦ أﻧﺖ ؟! فقال: من عنده.
قال مالك: إلى أين تسير ؟.ﻗﺎﻝ: إلى بيته.قال مالك: وأين الزاد ؟.قال: عليه.

قال مالك: إن الطريق لا يُقطع إلا بالزاد والراحلة.قال: تزودت عند خروجي من بيتي بخمسة أحرف.
قال مالك: وما هي ؟.قال الرجل: قوله تعالى: “كهيعص” (مريم: 1).قال مالك: وما معناها ؟.قال الرجل: أﻣﺎ ﻗﻮﻟﻪ(ﻛﺎﻑ) ﻓﻬﻮ ﺍﻟﻜﺎﻓﻲ ، ﻭأﻣﺎ (ﺍﻟﻬﺎﺀ) ﻓﻬﻮ ﺍﻟﻬﺎﺩﻱ ، ﻭأﻣﺎ (ﺍﻟﻴﺎﺀ) ﻓﻬﻮ ﺍﻟﻤﺆﻭﻱ ، ﻭأﻣﺎ (ﺍﻟﻌﻴﻦ) ﻓﻬﻮ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ، ﻭأﻣﺎ (ﺍﻟﺼﺎﺩ) ﻓﻬﻮ ﺍﻟﺼﺎﺩﻕ ،ويا أخي من ﺻﺤﺐ كافياً ﻭﻫﺎﺩياً ﻭمؤﻭياً ﻭﻋﺎلماً ﻭﺻﺎﺩقاً هل ﻳﺨﺸﻰ ضياعاً أو ﻳﺤﺘﺎﺝ إلى أحد.

ﻗﺎﻝ ﻣﺎﻟﻚ: ﻟﻤﺎ ﺳﻤﻌﺖ ﻣﻨﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻼ‌ﻡ ﻧﺰﻋﺖ ﻗﻤﻴﺼﻲ لأ‌ﻟﺒﺴﻪ إياه فأﺑﻰ أﻥ يلبسه ﻭﻗﺎﻝ: ﻳﺎ أخي ﺍﻟﻌﺮي ﺧﻴﺮ ﻣﻦ قميصك هذا ، فدنياك حلالها حساب وحرامها عقاب.

يقول مالك: وﻛﺎﻥ الرجل كلما ﺟﻦّ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻳﺮﻓﻊ ﺭأﺳﻪ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ وﻳﻘﻮﻝ: ﻳﺎ ﻣﻦ ﻻ‌ ﺗﻨﻔﻌﻪ ﺍﻟﻄﺎﻋﺎﺕ ﻭﻻ‌ ﺗﻀﺮﻩ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﻲ ﻫﺐ ﻟﻲ ﻣﺎ ﻻ‌ ﻳﻨﻔﻌﻚ ﻭﺍﻏﻔﺮ ﻟﻲ ﻣﺎ ﻻ‌ ﻳﻀﺮﻙ.

يقول مالك: ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺣﺮﻡ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﻟﺒّﻮﺍ ﻗﻠﺖ ﻟﻪ: ﻟﻢ ﻻ‌ ﺗﻠﺒﻲ ؟ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ أخي أﺧﺎﻑ أﻥ أﻗﻮﻝ ﻟﺒﻴﻚ ، ﻓﻴﻘﻮﻝ لي: ﻻ‌ ﻟﺒﻴﻚ ﻭﻻ‌ ﺳﻌﺪﻳﻚ لن‌ أﺳﻤﻊ ﻛﻼ‌ﻣﻚ ﻭﻻ‌ أﻧﻈﺮ إﻟﻴﻚ.

يقول مالك: ﺛﻢ ﻣﻀﻰ ﻋﻨﻲ ﻭﻏﺎﺏ ﻋﻦ ﺑﺼﺮﻱ ﻓﻤﺎ ﺭﺃﻳﺘﻪ إﻻ‌ ﺑﻤﻨﻰ ﻳﺒﻜﻲ ﻭهو ﻳﻘﻮﻝ:

إﻥ ﺍﻟﺤﺒﻴﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﺿﻴﻪ ﺳﻔﻚ ﺩﻣﻲ * ﺩﻣﻲ ﺣﻼ‌ﻝ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻞ ﻭﺍﻟﺤﺮﻡ
ﻭﺍلله ﻟﻮ ﻋﻠﻤﺖ ﺭﻭﺣﻲ ﺑﻤﻦ ﻋﺸﻘﺖ * ﻗﺎﻣﺖ ﻋﻠﻰ ﺭأﺳﻬﺎ ﻓﻀﻼ‌ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﺪﻡ
ﻳﺎ ﻻ‌ﺋﻤﻲ ﻻ‌ ﺗﻠﻤﻨﻲ ﻓﻲ ﻫﻮﺍﻩ ﻓﻠﻮ * ﻋﺎﻳﻨﺖ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺎﻳﻨﺖ ﻟﻢ ﺗﻠﻢ
ﻳﻄﻮﻑ باﻟﺒﻴﺖ ﻗﻮﻡ ﺑﺠﺎﺭﺣﺔ * ولو بالله ﻃﺎﻓﻮﺍ ﻷ‌ﻏﻨﺎﻫﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﺮﻡ
ﻟﻠﻨﺎﺱ ﺣﺞ ﻭﻟﻲ ﺣﺞ ﺇﻟﻰ ﺳﻜﻨﻲ * ﺗُﻬﺪى الأ‌ﺿﺎﺣﻲ ﻭأﻫﺪﻱ ﻣﻬﺠﺘﻲ ﻭﺩﻣﻲ

ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﺍﻟﻠﻬﻢ إﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺫﺑﺤﻮﺍ ﻭﺗﻘﺮﺑﻮﺍ إﻟﻴﻚ ﺑﻀﺤﺎﻳﺎﻫﻢ ﻭﻫﺪﺍﻳﺎﻫﻢ ﻭأﻧﺎ ﻟﻴﺲ ﻟﻲ سوى نفسي أﺗﻘﺮﺏ بها إﻟﻴﻚ ﻓﺘﻘﺒﻠﻬﺎ ﻣﻨﻲ ، ﺛﻢ رفع بصره إلى السماء وهو يبكي ثم ﺷﻬﻖ ﺷﻬﻘﺔ وخرّ ميتاً ، ﻓﺠﻬﺰﺗﻪ ﻭﻭاﺭﻳﺘﻪ التراب ، وﺑﺖُّ ليلتي ﻣﺘﻔﻜﺮﺍً ﻓﻲ ﺃﻣﺮﻩ ﻓﺮﺃﻳﺘﻪ ﻓﻲ المنام ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ﻣﺎ ﻓﻌﻞ الله ﺑﻚ ؟! ﻗﺎﻝ: ﻓﻌﻞ ﺑﻲ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﺑﺸﻬﺪﺍﺀ ﺑﺪﺭ ﻭﺯﺍﺩﻧﻲ. ﻗﻠﺖ: ﻟﻢ ﺯﺍﺩﻙ ؟! ﻗﺎﻝ: ﻷ‌ﻧﻬﻢ ﻗﺘﻠﻮﺍ ﺑﺴﻴﻮﻑ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ ﻭﺃﻧﺎ ﻗﺘﻠﺖ بسيف ﻤﺤﺒّﺔ ﺍﻟﺠﺒﺎﺭ .

نعم إن من يحسن التزود في هذه الأيام فإن زاده يكفيه حتى يصل لجنة ربه ، والناس في التزود درجات ، “هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ” (آل عمران: 163) ، فعلى قدر يقين المرء وثقته بربه يكون تزوده ، فليس كل الناس يطلب أن يكون مثل ذلك الرجل ، فكل يأخذ على قدر جرابه، وكل ينال ما يملأ ماعونه، ومواعين العباد ما أكثر اختلافها من حيث السعة والضيق.

لكن من أراد التزود فعليه بالتجرد، وهو أن يخلص نيته لربه ، ويقبل بقلبه على مولاه ، مخالفاً نفسه وهواه ، فمن لم يتجرد لم يتزود ، فمن أراد أن يملأ ماعونه بتقوى الله فعليه أن يفرغه أولاً لينال عطاياه.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا التجرد والتزود ، وأن يزودنا التقوى ويمدنا بالعافية وأن يغنينا عن كل من سواه ، وأن يرزقنا وكل مشتاق حج بيته الحرام وزيارة نبينا عليه السلام على الدوام.

زر الذهاب إلى الأعلى