دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب :هجران الأحمق قربة إلى الله

“وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً” [المزمل: 10]. أحياناً يجد الإنسان نفسه أمام صنف من الأناسي يشبه البشر شكلاً ويخالفهم مضموناً ، فهم من بني آدم قالباً وشكلاً ، وفي الوقت نفسه ينتمون إلى بنات آوى قلباً وطبعاً ، فتراه يسير على قدمين فإن دقّقت في طباعه رأيته من ذوات الأربع ، بل ربما رأيته إلى من يمشي على بطنه أقرب.

هؤلاء وأمثالهم يكون هَجْرُهم مندوباّ ، ووصلهم مكروهاً ، ورحم الله الحسن البصري حيث قال هجران الأحمق قربة إلى الله ، الركون إليهم ركون للهلاك ، والقرب منهم قرب من النار ، وخاطب وُدّهم ليس له من دون الله من أنصار ، “وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ } [هود: 113] ، وصلهم محادّات لله ورسوله ، وإن كانوا أقرب الناس رحماً ، أو أدناهم جيرة ، فالرحم في الإسلام رحم الإيمان ، والقيم ، والخلق الحسن ، والعمل الصالح ، وصدق الله تعالى إذ يقول: “إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ” [هود: 46]. فقرابة العمل الصالح والقيم غامرة لقرابة النسب.

لذا نرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل سيدنا سلمان منه ومن آل بيته وفي نفس الوقت يتبرأ ويهجر من هم من دمه ديانةً لله تعالى ، “لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ” [المجادلة: 22]. والمحادون لله كما يقول عنهم ابن كثير: هم الذين يكونون فِي حَدٍّ وَالشَّرْعُ فِي حَدٍّ غيره، أَيْ مُجَانِبُونَ لِلْحَقِّ مُشَاقُّونَ لَهُ.

والمنافقون النمّامون الكذابون ، وشهود الزور وآكلوا الحرام وشاربوه ، والساعون بين الناس بالإفساد ، ومن لا يتورعون عن أخذ ما ليس لهم ، كل هؤلاء لا شك أنهم محادّون لله ورسوله ، لذا يجب على الصالحين هجرهم فإما ان ينتهوا وإلا ينجوا المؤمن بنفسه ، “وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ” [هود: 113].

وهذا الهجر منهج الصالحين المصلحين من بني آدم ، فهذا شيخ الأنبياء سيدنا نوح عليه السلام يربيه ربه على هذا المنهج الرباني ، فيعلن له أن أقرب أقاربه متى خالف ذلك المنهج يصبح بالنسبة له أبعد الأباعد ، “إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ” [هود: 46]، وهذا أبو الأنبياء وخليل ربّه ، يهجر أباه وذوي قرباه ، ويعلنها مدوية في العالمين: “إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي سيهدين” [العنكبوت: 26] ، ثم يأتي سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ليزيد ذلك المنهج تأكيداً ، ويضعه في قالب يليق برحمته ورأفته ، ليكون هجره هجراً متميزاً يليق به وبأمته الوسط ، فنراه يهجر كل من ابتعد عن القيم والأخلاق التي جاء متمّماً لها ومكمّلاً هجراً جميلاً ، وهو الهجر الذي لا فحش معه ، ولا غيبة ولا نميمة فيه ، ولا يصحبه ذكر للمعايب والمثالب ، فنراه يهجر من أصحابه من تتغلب عليهم نفوسهم أياماً ليست بالقصيرة ، تأديباً لهم وتهذيباً ، فإما أن يعودوا لرشدهم فيتوبوا ، وإلا فلا مكان لهم عنده ، وما حديث الثلاثة الذين خُلّفوا عنا ببعيد ، هجرهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم حتى نفوسهم ، فلما آبوا وتابوا وصلهم وبرّهم ، “وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” [التوبة: 118]. كذلك نراه صلى الله عليه وسلم يهجر أزواجه الليالي الطوال عندما تظاهرن عليه ، حتى أمره ربه بتخييرهن بين الإبقاء عليهن أو تسريحهن ، “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً” [الأحزاب: 28 ، 29].

ما أريد قوله: إنه ينبغي على المؤمن أن يهجر من يسبب له نقصاً في دينه ، ويبعده عن قيمه وأخلاقه حتى ينزجر ويعود لقيم الدين وأخلاقه وإلا فلا يستحق أن يضيع معه وقته ، لذا قيل: رب ‏هجر جميل خير من مخالطة مؤذية.

ومع أنه صحّ عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الهجر فوق ثلاتة أيام ، إلا أن الهجر فوق ثلاث جائز في موضعين: أحدهما: أن يرى الهاجر فيه إصلاحاً للمهجور ، والثاني: أن يرى الهاجر في هجره سلامة في دينه وصلاحاً في دنياه ، والنهي وان كان عامًا فهو محمول على ما وراء هذين الموضعين المخصوصين ، بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم هجرها ذا الحجة والمحرّم وبعض صفر. (انظر الإمام الغزالي: إحياء علوم الدين ج 2 ص 123 ، 124).

يؤكد هذا ما رواه البيهقي في سننه: أن أمنا عائشة رضي الله عنها لما بلغها قولاً قاله عبد الله ابن الزبير في حقها ، قالت: “لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا” وهجرته الأيام الطوال ، وما ذلك إلا لعلمها أن هذا جائز شرعاً ، فحاشاها رضي الله عنها أن تخالف الشرع قيد أنملة.

ويزيد هذا البيان بياناً ما روي أيضاً عنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاثة أيام إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه” [إحياء علوم الدين: ج 2 ص 124]. كما أنه قد صحّ عن رسولنا الأعظم قوله “لا ضرر ولا ضرار” [مسند الإمام أحمد]. وهذا ما فهمه الحسن البصري ، لذا قال: هجر الأحمق قربة لله تعالى ، ومن المسلّمات أن ذلك الهجر يستمر أبداً ، لأن الحماقة لا علاج لها وهي مصاحبة لصاحبها حتى نهاية أجله ، حتى قيل:

لكل داء دواء يستطب به * إلا الحماقة أعيت من يداويها.

وعلى الجملة فإن الهجر قد يكون علاجاً ، ولا يصار إليه إلا إذا تحقق أو غلب على الظن أن ‏هجر المهجور أنفع في الجملة من وصله ، فإن كان العكس لم يشرع الهجر، لأن ‏الحكم يدور مع علته وجوداً ‏وعدماً.‏

ما حملني على كتابة هذا المقال هو أن الكثيرين منا ابتلوا بقرابات ومعارف وذوي أرحام حمقى ، لا خلاق لهم ولا دين ، ونحن منهم بين أمرين ، أحلاهما مرٌّ: إما أن نخالطهم فينقص ديننا وتفسد دنيانا ، وإما أن نجتنبهم فيسلم لنا الدين وتصح لنا الدنيا ، وقد جربنا معهم كل طرق الإصلاح حتى أعيتنا معهم الحيل ، وما ذاك إلا لأنهم مردوا على النفاق والكذب ، وران على قلوبهم الحسد والحقد. فلم نر إلا الهجر الجميل لنا ولهم دواءً.

هذا ونسأل الله الهداية لنا ولكل عاصٍ ، وأن يلهمنا رشدنا ، وأن يرزقنا طاعته على الوجه الذي يرضيه عنا.
وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى