دين و دنيا

د.حسنى ابوحبيب يكتب : سبيل النصر

قال تعالى “فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا” [مريم: 84] الإنسان كان ولا يزال عجولاً ، يستوي في ذلك آحاد الناس جميعاً، سواء كان من أفنائهم او كان نبيّاً رسولاً، وليس هذا بغريب عليهم، إذ هم مخلوقون منه، “خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ” [الأنبياء: 37]، ومفطورون عليه، “وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً ” (الإسراء: 11).

وهذا القول الكريم ينهى ربُّنا سبحانه وتعالى فيه نبيَّنا صلى الله عليه وسلم عن التعجّل بهلاك الكافرين، وما ذاك إلا لأنّ لهم آجالاً محدودة وانفاساً معدودة، بعدها حتماً سيرون ما يوعدون، وسينالهم ما كانوا به يكذبون، في ذلك اليوم الذي فيه يُحشر المتقون إلى الرحمن وفداً مكرّمين، بينما يُساق فيه أولئك العتاة المجرمون إلى جهنم عطشى مهانين، “يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً” (مريم: 85 ، 86).

فلكم استعجل خيرة خلق الله النصر على شرّ خلقه، غَيْرةً منهم على دين ربهم، عندما اشتدّت بهم الكروب، بعد أن مسّهم بعد النصب اللغوب، جرّاء طغيان أهل الكفر عليهم، واستبدادهم بهم، حتى حكى الحقُّ عنهم قوله: “…حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ” (البقرة: 214)، ثم تأتي الإجابة على تلك العجلة بأن النصر أقرب مما تتخيلون أيّها المؤمنون، “أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ” (البقرة: 214).

ولا شكّ أنّ استعجال المؤمنين النصر على عدوهم أمرٌ مبرّر مبرور، إلا أنّ الملفت للنظر والداعي للدهشة هو استعجال الكافرين هذا النصر للمؤمنين عندما كانوا يحدّثونهم عنه، ويُخبرونهم عن وعد ربهم لهم به، فيزداد الكافرون كبراً وغروراً، “وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” (السجدة: 28). جاء في تفسير أبي السعود: أنه عندما كان المسلمونَ يقولون: الله سيفتحُ لنا على المشركين أو يفصلُ بيننا وبينهم وكان أهلُ مكَّةَ إذا سمعُوه يقولون بطريقِ الاستعجالِ تكذيباً واستهزاءً متى هذا النَّصرُ، إِن كُنتُمْ صادقين في أنَّ الله تعالى ينصرُكم.

وإذا كان استعجال الكافرين النصر للمؤمنين غريباً عجيباً، إلا أنّ الأغرب منه والأعجب هو استعجالهم العذاب على أنفسهم، فكم من مرة يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم العذاب ويستعجلونه به، “وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ” (العنكبوت: 52 ، 53). بل إن حقدهم على رسولنا الأعظم وكرههم له ساقهم إلى أن يطلبوا من ربّهم أن يهلكهم بعذاب فيه من المهانة والذلّ ما فيه، بأن يُرجموا كرجم الكلاب بالحجارة، إذا كان ما جاء به ذلك الرسول هو الحقّ؛ “وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ اِئْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ” (الأنفال: 32).

ومن رحمة الله تعالى بعباده عدم مسايرتهم في طلباتهم، وتأجيل الاستجابة لدعواتهم، وإلا لحاق بهم العذاب، وأسرع إليهم الهلاك، “وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ” (يونس: 11)، وفي كثير من الحالات يستعجل الإنسان لفرط عجلته، وتعلّقه بعالم الشهادة وغفلته عن عالم الغيب الشرَّ لنفسه ظنّاً منه أنّ فيه الخير له، ولو تحقّق طلبه لفاته رجاؤه، “وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً” (الإسراء: 11).

والمسلمون في هذه الآونة ما أشدّ استعجالهم النصر على أعدائهم من الصهاينة ومن والاهم، لا سيما بعد أن بلغ الأمر ما عليه وما نراه، من تجبّر وعتو وكبر واستعراض للقوة، مع إسراف في سفك الدم وهتك العرض وحرق الأرض، زد على ذلك تدنيس للمقدّسات.

لكننا نذكّرهم بوعد الله الذي لا يُخلف، وعهده الذي لا يُنقض، بأنّ من أراد النصر سعى إليه، وطلب أسبابه، ومشى في طرقه، وسلك منهجه، والنصر ليس له إلا سبيل واحد، وليس له إلا طريق واضح، بيّنه لنا ربنا في كتابه؛ فقال: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ” (محمد: 7)، فمن أراد نصر الله كان عليه أن ينصر الله بطاعته والتزامه أوامره، فلا يراه ربّه حيث نهاه ولا يفقده حيث أمره، فمن فعل ذلك كان حقّاً على الله أن ينصره، “وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ” (الروم: 47).

إن أولئك الذين سينتصرون على صهاينة اليهود ومن عاونهم، لا بدّ وأن يكونوا عباداً لله على وجه الحقيقة، قائمين على أمره، سائرين على شرعه، معتصمين بحبله، يبنون ولا يهدمون، يُصلحون ولا يُفسدون، يُؤمِّنون ولا يُروِّعون، يجتمعون ولا يختلفون، يتوحّدون ولا يفترقون.

إنّنا متى فعلنا ذلك وعدنا لربنا بإعلاننا التوبة له، والأوبة إليه، جاءنا نصره وفتحه في لمح البصر ، لكن في الوقت نفسه يجب علينا أن نعود لوحدتنا وأن نتخذ عدّتنا ، وأن نلتفّ حول ولاة أمرنا، وأن ننبذ الفرقة والخصام من بيننا. عندئذ يأتينا نصر ربنا.

فاللهم ردّنا لدينك ردّاً جميلاً، وخذ بنواصينا لما فيه رضاك، وانصر أمة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واكشف كربها، وألهمها رشدها، وحرّر أرضها، واحفظ أوطانها يا ربّ العالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى