محمد حربي يكتبُ: أصواتُ إسرائيلية فوق المعركة !
قالَ تعالى: {… بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ … }، صدق الله العظيم. وتحولَ مجلسُ الحربَ الإسرائيلي- الذي تشَّكْلَ يومُ 11 أكتوبر (عام 2023م.) – من رسالةٍ للوحدةِ السياسية للاحتلالِ الصهيوني؛ ليصبح عنوناً للفرقة، والتمزق، داخل إسرائيل!. ومع انسحاب الجنرالين العسكريين، بيني غانتس، وغادي آيزنكوت، من المجلسِ- حزبُ الوحدة الوطنية المعارض-، واللذان تتقارب مواقفهما، مع أفكار يوآف غالانت- وزير الدفاع في الحكومة الصهيونية السابعة والثلاثون والشريك بحزبِ الليكود-، في عدمِ الرضاء على طريقةِ ” نتانياهو ” – السياسي –، فيما يتعلق بطريقةِ إدارة القتال، ضد المقاومة الفلسطينية. ولذا، فقد سقطْت ورقة التوت، وتكشفْت هشاشة الفسيفساء الإسرائيلية، وانهارْ التناغمُ السياسي العسكري!.
وجاءَ هذا الانهيار، بعد أكثر من ثمانية أشهر، على بدءِ معركة ” طوفان الأقصى”؛ حينما أعلن ” نتانياهو ” عن حل “مجلس الحرب”، يوم 17 من شهر يونيو الجاري، بعد انسحاب الجنرالين ” غانتس و آيزنكوت “، على إثرِ سلسلة إخفاقات في الإستراتيجية العسكرية – التي أطلق فيها ” نتانياهو” العنان لخياله؛ حتى أنهُ استبق الأحداث، ورسمَ مشهد اليوم التالي لانتهاء القتال. وكأنه يتجاهلَ الفشلُّ الكبير في تحقيقِ أي من الأهدافِ، التي لعب بها على أوتارِ الغرور عند المتشددين اليمينيين المتطرفين، والمتعطشين، إلى القضاءِ على المقاومةِ ” حماس “. ناهيك عن سياسته، في مداعبة، ودغدغة مشاعر أهالي الأسرى المختطفين، بشأن قدرة الجيش الإسرائيلي على تحرير أسراهم، واستعادتهم من داخلِ قطاع غزة! .
واستيقظ الإسرائيليون من كابوسهم، بعد حالة سبات عميق!؛ لم يكنْ يعلو فيها صوت، فوق صوت المعركة؛ اللهم إلا من دقِ طبول الحرب!؛ حتى صُمَّتْ كل الآذان عن سماعِ صوت العقل!. وفجأة، أصبحَ المشهدُ الإسرائيلي في الداخلِ، على صفيحِ ساخن!. وباتْ، كما يقول المثلُ العربي: ” اتسعَ الفتقُ على الراتقِ”. وفشلَت كافة محاولات ” نتانياهو” ، في إقناعِ الجنرال “غانتس ” – صاحب الخبرة العسكرية -، للتراجع عن قرارِ الانسحاب من “مجلس الحرب” – كان يضم قائد الأركان الأسابق غادي آيزنكوت، ووزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر، ورئيس حزب “شاس” الديني أرييه درعي بصفتهم مراقبين -؛ ليجد ” نتانياهو” نفسه، أمام مشهد شديد الارتباك. وقد زاد الطين بلة، السجال بينه وبين اليميني المتطرف، ايتمارس بن غفير- وزير الأمن القومي في الحكومة الحالية، وزعيم حزب “القوة اليهودية”؛ والتي وصلت الأمور بهما، إلى حد تبادل الاتهامات، بشأن تسريب أسرار الكيان المُحْتَلُ.
ولا يمكن النظر إلى رفضِ ” نتانياهو”، السماح للوزير ” بن غفير”، بالانضمام إلى ” الهيئة التشاورية المصغرة”، البديلة عن ” مجلس الحرب”، الذي تم حله؛ بأنها المرة الأولى، التي يضرب فيها الخلاف جنبات أقطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف -الحاكم حالياً -. ولذا باتت هذه الحكومة، تحمل بين طياتها بذور انهيارها، وهذا قاب قوسين أو أدنى!؛ ولاسيما في ظل تنامي ظاهرة دعاوي المعارضة لانتخابات مبكرة، وخروج الإسرائيليون للشوارع، للمطالبة بصفقة سريعة لتبادل الأسرى، وتزايد حدة الغضب في أوساط حزب ” شاس” الديني – الشريك بالائتلاف الحكومي، مع الليكودِ، وآخرين كالقوة اليهودية والصهيوني الديني ويهود التوراة المتحدة ونعوم-؛ وذلك على خلفية دور ” نتانياهو”، في إسقاط مشروع ” قانون الحاخامات” بالكنيست الإسرائيلي – كان مضمونه نقل صلاحية تعيين الحاخامات من السلطات المحلية إلى وزارةِ الأديان ويتولاها زعيم حزب شاس- .
وفيما يبدو فإن ” نتانياهو”، ومنذ بدء معركة ” طوفان الأقصى”؛ قد حقن الإسرائيليين، بجرعات “الأدرينالين ” – هرمون الخوف-؛ فظلوا يحبسون أنفاسهم، ولقرابة تسعة أشهر!، وهم ينتظرون رد الاعتبار. ولكن طال الانتظار، واكتشفوا أن ” نتانياهو “، باع لهم الوهم!، وليس هناك أفق واضح لخروج الجيش الصهيوني من مستنقعِ غزة؛ حتى الأسلحة الحديثة، لم تعطهْ ميزة نسبية للتفوق في ميدان القتال – غير التقليدي-؛ حيث دخله بدون تفاصيل واضحة الملامح بكيفية عمله، خلال المواجهة مع رجال المقاومة الفلسطينية؛ الذين تنشق عنهم الأرض،فجأة؛ فيصطادون القوات الصهيونية وآلاتها العسكرية، ثم يختفون في باطنها من جديد. وحتى الأمل في استعادة أسرى إسرائيل المختطفين أحياء، بدأ يتلاشى، ويصبح بعيد المنال!. وفي ظل هذه الأجواء المحبطة، زالت حواجز الصمت، وتحطمت جميع القيود؛ فتجاوز الإسرائيلي ” التابو” – المحظور الاجتماعي والخط الأحمر في أقدم الأعراف-، وعلا صوته فوق صوت المعركة.
ويقيناً، عندما تتلاقى مصالح اليسار، مع الوسط، ويتشكل معسكر للمعارضة داخل إسرائيل، فربما يبدأ ربيعُ ” نتانياهو “، قبل الخريف!. ويأخذ منحنى عمره السياسي في الانحدارِ، بعد أن تهشم إرثه الجماهيري، جراء الانقسام، الذي زرعه بسبب الإصلاحات القضائية. وعليه فقد أصبح مستقبل الدولة الصهيونية على المحك. وما أدراك، لعل عقارب الزمن تعود بها للوراء، وإلى ما كانت عليه حالتها من الضبابية، خلال فترة ما قبل يوم 6 أكتوبر ( عام 2023م.)، وبكل ما تحمله ملامحها آنذاك، من مخاوف التصدعات، والانقسامات؛ بل وهواجس الانزلاق نحو حافة الهاوية، والوقوع في حرب أهلية. وهذا ما حذر منه “آيزنكوت ” رئيس هيئة أركان الجيش الصهيوني الأسبق – قُتِلَ أبنه الأكبر الجندي غال، في تفخيخ نفق في غزة، يوم 7 من شهر ديسمبر(عام 2023م.) وبعدها بيومين ابن شقيقته الجندي ماؤر كوهين -؛ عندما كان باحثاً بمعهد أبحاث الأمن القومي في ” تل أبيب”، ومن خلال ورقة بحثية ( عام 2019م.)، قال: ” إن التهديد المركزي لإسرائيل اليوم ليس خارجياً، وإنما التصدعات في المجتمع الإسرائيلي “. وبالنظر للواقع، فإن غياب الأساسات المشتركة للمجتمع الصهيوني؛ لن تمكن من بقاء الكيان المحتل، متماسك،مترابط، ومستقر؛ وذلك، بسبب مكوناته. وهي خليط غير متجانس؛ فلا يجمعهم، سوى هواجس الوجود والمصير والمستقبل.ومن هنا تعالت الأصوات الإسرائيلية، فوق صوت المعركة.
كاتب وصحفي
[email protected]