Uncategorized

مهندس خالد محمود يكتب: حين تصبح الغرامة رشوة مقننة دماء الأبرياء لا تحتمل التصالح

في مجتمعات لا يُحاسب فيها المخطئ، ولا تُفرض فيها القوانين بصرامة، تصبح الجريمة امتدادًا للواقع، لا استثناءً عليه. لا حديث اليوم يعلو على فاجعة المنوفية، حيث قضت 18 فتاة بريئة نحبهن في حادث مأساوي نتيجة اصطدام سيارة نقل ثقيل بمركبة تقل طالبات. هذا الحادث، كسابقيه، لم يكن قدرًا محتومًا، بل نتيجة طبيعية لغياب الانضباط، وغياب الردع، وغياب العدالة الحقيقية في تطبيق القانون.

إن الغرامات المرورية، التي من المفترض أن تكون أداة ردع، تحوّلت في مصر إلى وسيلة تحصيل أموال، لا أكثر. والمصيبة الأعظم أن نظام “التصالح” مع المخالف، والذي يبدو في ظاهره مرونة قانونية، ليس سوى تقنين للفساد. إذ كيف يتصالح المخالف مع الدولة، بينما المتضرر الحقيقي هو المجتمع؟ من الذي فوّض وزارة الداخلية للتنازل عن حق الضحية مقابل مبلغ يُودَع في خزائنها؟!

التصالح هنا لا يختلف كثيرًا عن “الرشوة”، سوى في أنه يحمل إيصالًا رسميًا. في حين أن التصالح الحقيقي لا يتم إلا بين الطرف المعتدي والطرف المعتدى عليه. فهل سُئلت أسر الضحايا إن كانوا يقبلون هذا التصالح؟ هل وقّع أحدهم على استلام حقه؟

لقد تحول الطريق في مصر إلى مسرح للدم، لا يمر أسبوع إلا ونُفجع بحادث جديد، ضحيته دائمًا من الأبرياء: أطفال، شباب، أمهات، عمال بسطاء، وطلاب علم. وحين نبحث عن الجاني، لا نجد فقط السائق المتهور، بل نجد دولة تهاونت، وقانونًا رخوًا، ونظامًا مروريًا فوضويًا، وشرطيًا قد يُغمض عينيه مقابل بضع جنيهات.

وما يزيد الطين بلة، أن سيارات النقل الثقيل ما زالت تسير في يمين الطريق، مخالفة قواعد السلامة المرورية، معرضة أرواح المئات للخطر. هذا السلوك، الذي يجب أن يُمنع تمامًا، ما زال يحدث دون أدنى رقابة، وكأن الأرواح التي تُزهق لا تعني شيئًا.

الحل لا يكمن في رصف طرق جديدة فقط، بل في خلق منظومة قانونية صارمة، لا تعرف التهاون، ولا تفتح باب “التصالح” إلا عندما يكون هناك متضرر مباشر وواضح، وله رأي في القضية. يجب أن تكون الغرامة موجعة، رادعة، لا تُسقط إلا بقرار قضائي بعد محاكمة عادلة، لا بإيصال مختوم من وحدة المرور.

ولا يجوز للحكومة أن تتنصل من مسؤوليتها السياسية والأخلاقية. دماء بنات المنوفية ليست أول دماء، ولن تكون الأخيرة إن ظلّت الأمور كما هي عليه. لا نحتاج إلى بيانات عزاء رسمية، بل إلى قوانين تُطبق، وعدالة تُنجز، ومسؤول يُحاسب.

فالحياة ليست مجرد أرقام تُضاف إلى إحصائيات الحوادث، بل مسؤولية دولة تجاه شعبها. وكل قطرة دم تُراق بسبب إهمال أو تواطؤ، يجب أن تُسجل في ذمة كل مسؤول لم يقم بواجبه.

زر الذهاب إلى الأعلى