رحيل فاطمة عوض.. نسّاجة الحرانية التي غزلت اسم مصر في معارض العالم

كتبت – نجوى إبراهيم
حين كانت الطفلة الريفية تُمسك بالخيط لأول مرة في قرية «الحرانية»، لم يكن أحد يدري أن هذه الأيادي الصغيرة ستحمل ذات يوم رسالة فنية تتجاوز حدود المكان، وتضع اسم مصر على خريطة النسيج الفني العالمي.
هي فاطمة عوض، إحدى رائدات فن النسيج اليدوي، التي تحوّلت من عاملة بسيطة إلى فنانة يفتخر بها الوطن.
وُلدت فاطمة عوض في بيئة مصرية خالصة، بقرية الحرانية بمحافظة الجيزة، حيث الجمال الطبيعي والهدوء الذي يلهم الخيال.
وفي عام 1951، بدأت رحلتها حين التحقت بمركز أنشئه المعماري والفنان رمسيس ويصا واصف، في تجربة تربوية فريدة لم تعتمد على التعليم التقليدي، بل على إطلاق الطاقات الإبداعية الكامنة داخل الأطفال.
في هذا المركز، تعلمت فاطمة أن الفن لا يُدرّس، بل يُستخرج من الروح، فبدأت تنسج مشاهد حياتها اليومية على الأنوال دون تقليد أو رسومات مسبقة.
كانت الحياة الريفية بكل ما فيها من بساطة وسحر هي المصدر الأول لإلهامها.
تميّزت فاطمة عوض بخيالها المتقد، وقدرتها على ترجمة تفاصيل الحياة المصرية في أعمال نسيجية تنبض بالحياة.
استخدمت الصوف الطبيعي المصبوغ بالألوان النباتية، وابتعدت عن القوالب الجاهزة، لتقدّم لوحات فريدة تُجسّد مناسبات الريف، من الأفراح إلى الحصاد، ومن مواكب الحيوانات إلى الأسواق الشعبية.
تميزت أعمالها بصدقها الفني ودفئها العاطفي، وهو ما جعلها تُعرض في أبرز المعارض العالمية ، من باريس إلى طوكيو، ومن نيويورك إلى برلين، حيث تُعرض حالياً إحدى أهم أعمالها “الري في الحقول” في متحف جيمس سيمون ضمن معرض خاص بمركز ويصا واصف.
رغم بداياتها كعاملة نسيج بسيطة، تمكّنت فاطمة من أن تكون واحدة من أهم الفنانات في قطاع النسيج اليدوي، أحد أعرق فروع الصناعات الحرفية في مصر.
وقد جمعت بين الحرفة والفن، بين الإنتاج والابتكار، لتؤكد أن الإبداع يمكن أن يولد من العمل، وأن الفن الحقيقي لا يحتاج إلى أدوات بقدر ما يحتاج إلى صدق وتجربة.
امتدت مسيرتها لأكثر من خمسين عامًا، لم تهتم فيها بالأضواء، بل تركت لمنسوجاتها أن تتحدث عنها.
وكانت كل قطعة تحمل توقيعها البصري الخاص، وهو ما ميّزها وجعلها رمزًا أصيلًا للمدرسة الفنية في مركز ويصا واصف.
في 31 يوليو 2025، رحلت فاطمة عوض عن عمر يناهز 82 عامًا، تاركة ورائها رصيدًا غنيًا من الأعمال والتلاميذ والرسائل البصرية التي لا تزال تحكي عن مصر.
وقد نعتها مؤسسات الدولة المختلفة ومنها وزارة الثقافة، حيث عبّر الوزير أحمد فؤاد هنو عن فخره بمسيرة فاطمة، واصفًا إياها بأنها “جسّدت في نسيجها حكايات الوطن بموهبة فطرية لا تتكرر”.
و المجلس القومي للمرأة برئاسة المستشارة أمل عمار، قال في بيانه، “فقدنا فنانة أصيلة، حوّلت المهنة إلى رسالة، وجسّدت بخيوطها ملامح الريف المصري وروح المرأة المكافحة التي تُبدع في صمت”.
كما نعاها مركز رمسيس ويصا واصف، مؤكدًا أن الراحلة لم تكن مجرد تلميذة، بل كانت واحدة من بناة التجربة، وأسست بأسلوبها الفني مدرسة بصرية لا تزال تُلهم أجيالًا من بعد رحيلها.
فاطمة عوض ، صوت ريفي في ثوب عالمي، فرغم عالمية المعارض التي شاركت فيها، لم تنس فاطمة جذورها يومًا ظلّت الحرانية حاضرة في كل منسوجاتها، وظل صوت الريف، وحكاياته، ينساب بين خيوطها كأنها سرد شعبي حي.
لم تنقل الواقع كما هو، بل أعادت تشكيله من ذاكرة الطفولة، بلغة فنية خالية من التكلّف، قريبة من القلب.
رحيل فاطمة عوض لا يعني نهاية حكايتها، بل بداية فصول جديدة تُروى عنها وعن فنها، وعن قدرة المرأة المصرية على تخطي القيود وصناعة الأثر.
لقد كانت نموذجًا للمرأة العاملة المبدعة، التي جمعت بين البساطة والعُمق، وبين الجهد اليدوي والرؤية الفنية.
وستبقى أعمالها حاضرة، تروي للأجيال أن الخيط يمكن أن يصنع ذاكرة، وأن النول يمكن أن يكون منبرًا، وأن الفن الحق لا يموت.