الدكتور حسنى ابوحبيب يكتب : المفترون وعاقبتهم

 

 

تلوت قول الله تعالى في سورة طه: “لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى” (آية: 61) ، ووقفت طويلاً أمامه متأملاً فوجدت في ذلك القول الكريم نهياً عن افتراء الكذب على الله ، وأن ذلك النوع من الافتراء تعجل عقوبته فتكون عذاباً يستأصل أولئك المفترين ولا يبقي منهم أحدا ،

 

كذلك وجدت فيه وعيداً لكل مفترٍ بالخيبة والخسران ، ثم أمعنت النظر فيه ثم عدت بذاكرتي إلى تاريخ بني الإنسان فوجدتني أمام ناموس من النواميس التي جعلها الله تعالى حاكمة لهذا الكون الذي نعيش فيه وقانون لا يستطيع أحد الإفلات منه.

 

ومن خلال مراجعتي لتاريخ البشر عبر مخيلتي رأيت أن الله تعالى ما ترك مفترٍ عليه إلا وجعله عبرة ، وسلط عليه أضعف مخلوقاته لتسومه سوء العذاب سخرية منه واستهزاء به ، بداية من قوم نوح حيث سلط عليهم المطر ، ومرورا بالنمروز بن كنعان الذي سلط الله عليه باعوضة حرمته لذة العيش ومتعته ، وأبرهة الحبشي ذلك المتغطرس الذي همً بهدم بيت الله الحرام فأرسل الله عليه طيرا هي أقرب إلى العصافير رمته بحجارة كحبة العدس فلم تتركه حتى أهلكته وجيشه ، ووصولا إلى جبابرة العصور الحديثة والمعاصرة الذين رأينا صنع الله بهم.

 

هذا وعندما نعيد النظر في كتاب ربنا نراه ينطق بالوعيد لذلك الصنف من الأناسي لعظم جرمهم وكبر ذنبهم في أكثر من موضع ، فتوعدهم بعدم الفلاح في الدنيا والآخرة ، فقال جل شأنه: “قل إن الذين يفترون على الكذب لا يفلحون” (يونس: 69) وأكد ذلك الوعيد في سورة النحل فقال تعالى: “إن الذين يفترون على الكذب لا يفلحون” (آية: 116). كما توعدهم بالغضب والذلة في الحياة الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة فقال فيهم: “سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين” (الأعراف: 152).

والافتراء على الله تعالى له صور كثيرة وربما خفي بعضها على كثير من البشر ، كلها ذُكرت في كتاب ربنا ، منها:

 

١_ القول في شرع الله تعالى بغير علم ، لا سيما في مسائل الحلال والحرام ، والجرأة على ذلك ، وهذا من العلامات الدالة على جهل المرء وضعف عقله واستهانته بأمر دينه ، ورحم الله ابن عطاء الله السكندري عندما قال: “من رأيته مجيباً عن كل ما سئل ، معبراً عن كل ما شهد ، وذاكراً كل ما علم ، فاستدل بذلك على وجود جهله” ، وقد حذر الله تعالى عباده من ذلك أشد التحذير ، فقال تعالى: “ﻗﻞ ﺃﺭﺃﻳﺘﻢ ﻣﺎ ﺃﻧﺰﻝ اﻟﻠﻪ ﻟﻜﻢ ﻣﻦ ﺭﺯﻕ ﻓﺠﻌﻠﺘﻢ ﻣﻨﻪ حراما وحلالا ﻗل ءاﻟﻠﻪ ﺃﺫﻥ ﻟﻜﻢ ﺃﻡ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﺗﻔﺘﺮﻭﻥ” (ﻳﻮﻧﺲ: 59). وأكد على ذلك بقوله: “ﻭﻻ ﺗﻘﻮﻟﻮا لما تصف ﺃﻟﺴﻨﺘﻜﻢ اﻟﻜﺬﺏ ﻫﺬا ﺣﻼﻝ ﻭﻫﺬا ﺣﺮاﻡ ﻟﺘﻔﺘﺮﻭا ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ اﻟﻜﺬﺏ ﺇﻥ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻔﺘﺮﻭﻥ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ اﻟﻜﺬﺏ ﻻ ﻳﻔﻠﺤﻮﻥ (النحل: 116).

 

٢_ الاغترار بالطاعات ورفع النفس وتزكيتها على غيرها غرورا وكبرا ، وما أكثر من يغترون بأنفسهم ويرفعونها على من يرونهم دونهم في الطاعة ، وأسوأ من ذلك عندما يحملهم غرورهم على الأمن من عذاب الله والحكم على غيرهم بالهلاك ، هؤلاء وأمثالهم ما حملهم على هذا إلا انهم: “ﻗﺎﻟﻮا ﻟﻦ ﺗﻤﺴﻨﺎ اﻟﻨﺎﺭ ﺇﻻ ﺃﻳﺎﻣﺎ ﻣﻌﺪﻭﺩاﺕ وغرهم ﻓﻲ ﺩﻳﻨﻬﻢ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻔﺘﺮﻭﻥ” (آل عمران: 24) ، كما وصفهم الله تعالى لنبيه ولنا في قوله”ﺃﻟﻢ ﺗﺮ ﺇﻟﻰ اﻟﺬﻳﻦ يزكون ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﻞ اﻟﻠﻪ ﻳﺰﻛﻲ ﻣﻦ ﻳﺸﺎء ﻭﻻ ﻳﻈﻠﻤﻮﻥ ﻓﺘﻴﻼ * اﻧﻈﺮ ﻛﻴﻒ ﻳﻔﺘﺮﻭﻥ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ اﻟﻜﺬﺏ ﻭﻛﻔﻰ ﺑﻪ ﺇﺛﻤﺎ ﻣﺒﻴﻨﺎ” (النساء: 49، 50).

 

٣_ محاولة النيل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والقدح في علماء الأمة ومؤسساتها الدينية المعتبرة بكلام منمق ومزخرف ظاهره فيه الرحمة وباطنه يكمن فيه العذاب ، لإبعاد الناس عن دينهم ، وتشكيكهم في تراثهم ، وزعزعة ثقتهم في علمائهم ، وترى أولئك الصنف من البشر على مختلف أزمنتهم وتباين بيئاتهم وابتعاد أماكنهم يوحي بعضهم إلى بعض ذلك السم الذي يبثونه لا سيما في عوام الناس وجهلتهم ، وقد أخبرنا الله عنهم بأنهم أعداء للنبيين ولورثتهم من بعدهم ونصحنا بألا نشتغل بهم عن آداء رسالتنا وتبليغها للعالمين وأخبرنا بأنه سبحانه متكفل بهم ، “ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺟﻌﻠﻨﺎ ﻟﻜﻞ ﻧﺒﻲ ﻋﺪﻭا ﺷﻴﺎﻃﻴﻦ اﻹﻧﺲ ﻭاﻟﺠﻦ ﻳﻮﺣﻲ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﺑﻌﺾ ﺯﺧﺮﻑ اﻟﻘﻮﻝ ﻏﺮﻭﺭا ﻭﻟﻮ ﺷﺎء ﺭﺑﻚ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻮﻩ ﻓﺬﺭﻫﻢ ﻭﻣﺎ ﻳﻔﺘﺮﻭﻥ” (الأنعام: 112).

 

٤_ التضييق على خلق الله بتحريم الحلال ، والتشدد في الدين والتنطع فيه ، فلا تسمع لهم إلا كلمة حرام يوحون بها إلى من قل علمهم وزاد جهلهم بأنهم أحرص على الدين من غيرهم ، ويناطحون أئمة الأمة وأعلامها ويتطاولون على هداتها وعلمائها ، هؤلاء الذين يشوهون دين الله وينفرون عباده عنه سيجزيهم الله ذلاً وصغاراً وعذاباً جزاء افترائهم عليه ، قال تعالى ذاكراً صنفاً منهم في قوله تعالى: “ﻭﻗﺎﻟﻮا ﻫﺬﻩ ﺃﻧﻌﺎﻡ ﻭﺣﺮﺙ ﺣﺠﺮ ﻻ ﻳﻄﻌﻤﻬﺎ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻧﺸﺎء ﺑﺰﻋﻤﻬﻢ ﻭﺃﻧﻌﺎﻡ ﺣﺮﻣﺖ ﻇﻬﻮﺭﻫﺎ ﻭﺃﻧﻌﺎﻡ ﻻ ﻳﺬﻛﺮﻭﻥ اﺳﻢ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻓﺘﺮاء ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻴﺠﺰﻳﻬﻢ ﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻔﺘﺮﻭﻥ (الأنعام: 138).

إلى غير تلك الصور من صور الافتراء على الله تعالى.

ما أريد قوله من وراء هذا أني أشعر بأسف شديد في هذه الأيام الشداد التي نعيشها ويعيشها العالم من حولنا والتي يُفترض أن تحملنا على التضرع لله رب العالمين وإعلان التوبة إليه والندم عما بدر منا ، نرى ونسمع أناساً يتطاولون على دين الله ويتطاولون على ورثة أنبيائه ، وما زالوا مصرين على افتراءاتهم على الله ، ونحن والله حينما نسمع ذلك منهم نحزن عليهم ونأسف لهم لأنا نؤمن إيمانا لا يتزعزع ويقيناً لا تشوبه ذرة شك أن النواميس التى جعلها الله تعالى حاكمة لكونه سارية وأن قوانين ذلك الكون ماضية ، “ﺳﻨﺔ اﻟﻠﻪ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺧﻠﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻭﻟﻦ ﺗﺠﺪ ﻟﺴﻨﺔ اﻟﻠﻪ تبديلا” (الفتح: 23).

 

فما تطاول أحد على دين الله ولا تجرأ إنسان على شرعه إلا خاب وخسر ونال جزاءه في الدنيا قبل الآخرة ، ولنا في أولئك الصنف المتأسلم الذي افترى على دين الله فأحل ما حرم وحرم ما أحل ، وحاولوا استغلال الدين في أغراض دنيئة وما حل بهم من عقاب سريع شتت شملهم وبعثرهم في بلاد الله العبرة والموعظة ذلك لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد.

 

وآخيرا أُذكّر كل مفترٍ بقول الله تعالى: “ﻓﻬﻞ ﻳﻨﻈﺮﻭﻥ ﺇﻻ ﺳﻨﺖ اﻷﻭﻟﻴﻦ ﻓﻠﻦ ﺗﺠﺪ ﻟﺴﻨﺖ اﻟﻠﻪ ﺗﺒﺪﻳﻼ ﻭﻟﻦ ﺗﺠﺪ ﻟﺴﻨﺖ اﻟﻠﻪ تحويلا” (فاطر: 43).

نسأل الله تعالى أن يرفع عن بلادنا البلاء والوباء وأن يحفظنا أجمعين ، كما أسأله توفيقا لولاة أمورنا ، وحفظا لجيشنا وسدادا لرجال أمننا ، وأن يبارك لنا في أزهرنا وأوقافنا وجميع علمائنا الذين لا يدخرون وسعا في خدمة ديننا ووطننا.

زر الذهاب إلى الأعلى