آراءأهم الأخبار

إيهاب عمر يكتب : لماذا تفشل التيارات المدنية في مصر؟

مع تطور العلوم والفلسفة السياسية في الغرب، وتوالي عصور الإصلاح والنهضة والتنوير لتخلق الغرب الحديث كما نراه اليوم، راح المتأثرين بتلك الأفكار يحاولون نقلها ونشرها في المجتمعات الشرقية، وقد واكب ذلك رغبة حاكم مصر وقتذاك محمد على باشا في زراعة بعضاً من الحداثة الأوروبية في مصر أوائل القرن التاسع عشر.

وللمفارقة فأن أفكار الحداثة لم تكن غائبة عن مصر ما قبل محمد على كما يردد اغلب المثقفين، بل ان المؤرخ الأمريكي بيتر جران أشار الى الأصول المصرية للحداثة الأوروبية، والمؤرخة المصرية نيللي حنا كتبت بإسهاب عن التطور المجتمعي الذى ميز المجتمع المصري في سنوات مصر المملوكية او حتى سنوات الاحتلال العثماني، ولكن الرعيل الأول من رواد التنوير في مصر في سنوات الخديو عباس حلمي الثاني أرادوا مجاملة “افندينا” بإلغاء وشطب هذا التاريخ قبل جده الأكبر محمد على وتنصيب عصر جده باعتباره فاتحة التنوير والحداثة في بلد تضرب جذور حضارتها في عمق تاريخي يصل الى 10 آلاف سنة.

ولكن الحداثة في مصر كانت تسيطر جنباً الى جنب مع تصاعد الجهل المتعمد من السلطات العثمانية، وظل هذا الصراع موجوداً في المجتمع المصري، الى ان اتى محمد على وإسماعيل وعباس حلمي الثاني ودعموا الحداثة والتنوير مقابل الجهل.

ولكن الاحتلال البريطاني انتصر للجهل والتطرف، ولم يكتف بذلك بل أسس جماعات الإسلام السياسي وعلى راسها تنظيم الاخوان عام 1928 لحراسة ورعاية الجهل حتى لو زال الاحتلال عن مصر وهو ما حدث، لتدخل مصر في صراع حتى اليوم بين التيارات المدنية وتيارات التدين الكاذب التي أطلق عليها الاحتلال البريطاني التيار الإسلامي.

وبعيداً عن لعب فرق تسد البريطانية، حينما تواصل الاحتلال البريطاني ايضاً مع النخب المدنية من اجل التلاعب بالفريقين على حساب الحركة الوطنية والقضية الوطنية، ولكن ظل الفشل يلاحق التيارات المدنية المصرية طيلة سنوات الحركة المدنية الحديثة في مصر ابان عصر الخديو إسماعيل وحتى اليوم.

ان عوامل فشل التيارات المدنية تعود الى سنوات اسرة محمد على، حينما ظن حكام تلك الاسرة ان الليبرالية والتنوير يمكن ان يأتي برعاية الدولة دون ان يكون وراء ذلك رغبة شعبية حقيقية، بينما ينقل لنا التاريخ ان الأفكار المدنية في أوروبا مهد التيارات المدنية الحديثة قد ظهرت اولاً عبر رغبة شعبية في التخلص من سطوة الكنيسة على العروش والسياسة والاقتصاد وبناء الامبراطوريات الرومانية والدينية المقدسة مترامية الأطراف، بينما ملت الشعوب من هذا الخطاب الديني المهيمن على الحياة وبحثت البديل، وهنا ظهر المفكرين والمثقفين وحتى الساسة والعسكريين ورجال الدين الذين ترجموا رغبة الشعوب الى أفكار ومصالح وايدولوجيات.

وبالتالي فأن العلمانية او الأفكار المدنية الحديثة في الأساس هي فرز شعبي وليس إرادة حكومية فلا يمكن فرض الأفكار المدنية بقرارات رئاسية او فرمانات ملكية، ولكن يمكن للدولة ان تساعد عبر مشروع فكري او ثقافي، ولكن حقن المجتمع وتغيير مرجعيته بالكامل من فكرة الى فكرة أخرى هو امر فشل عبر التاريخ كله.

ولعل امثلة فشل نشر الأفكار المدنية بقرارات حكومية تتمثل في محاولات السوفييت لنشر الالحاد في شعوب الإمبراطورية السوفيتية وإلغاء الكنيسة الارثوذكسية الروسية وهدم المساجد والمعابد اليهودية وكانت النتيجة انه رحل السوفييت عن الحكم وبقيت الكنيسة الروسية وبقت الشعوب السوفيتية بنفس توجهاتها الدينية، ولم تكن الشيوعية السوفيتية هي الايدولوجيا المدنية الوحيدة التي حاولت نشر الالحاد فقد عملت النازية الألمانية على الفكرة ذاتها خصوصاً حيال الكاثوليك الالمان وكذلك الفاشية الإيطالية حيال كنيسة روما وفشل السوفييت والنازيين والفاشيين في نشر الالحاد على حساب التدين والكنيسة.

وفى الشرق الأوسط، أتت إصلاحات مصطفى كمال اتاتورك وعصمت إينونو بقرارات رئاسية، وما ان رحلا عن عالمنا حتى راح الشعب التركي ينتخب التيار الإسلامي منذ الخمسينات وحتى اليوم، وكذا الشعب التونسي مع إصلاحات الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وما ان رحل بن على من سدة الرئاسة التونسية حتى راح الشعب التونسي ينتصر في صناديق الانتخابات لصالح الإسلاميين طيلة عشر سنوات حتى اليوم.

عدم وجود فرز اجتماعي او رغبة شعبية في التحول المدني، يتحمل سببه النخب المدنية التي بدورها حولت الأفكار المدنية الي مهاترات نخبوية، وذلك ليس في مصر فحسب بل في كامل مجتمعات الشرق، ومع تحول القيم المدنية الى أفكار نخبوية، تم مصادرتها وحسبها في المناقشات الاكاديمية وقاعات المثقفين ومجالس المنظرين، ولاحقاً مع ابتكار وسائل التواصل الاجتماعي وجد هؤلاء “جيتو” خاص بهم عبر منصات تويتر وفيس بوك.

الانفصال التام عن الشارع، والالحاح على الدولة او الحكومة عبر العصور للقيام بدعم ونشر القيم المدنية وحسم الصراع الأيديولوجي، هو مشكلة دعاة التيار المدني في المجتمعات الشرقية، هذا الالحاح تحول الى أحزاب معارضة بل وللمفارقة تحول الى تحالف مع التيارات المحافظة ضد الحكومات، بدلاً من صناعة ظهير مدني للدولة او الحكومات في حربها مع الجماعات الإسلامية فان العكس هو الصحيح تحولت بعض التيارات المدنية الى ظهير مدني للجماعات الإسلامية في ارهابها ضد المجتمعات والشعوب والحكام في الشرق الأوسط.

والى جانب غياب الإرادة الشعبية والفرز المجتمعي وانفصال دعاة ومدعي التيارات المدنية عن الشارع وعدم رغبتهم في العمل على الأرض وتحويل الأفكار المدنية الى أفكار نخبوية يتم الارتزاق عبرها بحثاً عن التمويل الأجنبي منذ زمن الاحتلال البريطاني وحتى زمن المشاريع الامريكية للشرق الأوسط ما أدى الى نظر المجتمع الى كثير من مكونات التيارات المدنية باعتباره وصاية الاستعمار القديم والجديد، فأن دعاة التيارات المدنية لديهم مشكلة اعمق من ذلك تتمثل في النماذج المدنية التي يريدون تطبيقها في مصر او المجتمعات الشرقة بوجه عام.

ان المشكلة الحقيقية لدي اتباع التيارات المدنية هي مشكلة معرفية في المقام الأول، اذ ان اغلب هؤلاء يطالب بتطبيق الديموقراطية او الليبرالية او افساح المجال للعلمانية والتنوير، دون ان يطرح أي مفهوم حقيقي لهذه المصطلحات، ان اغلب النشطاء والمثقفين في المشرق لديهم مشكلة في تعريفات او الأطر المعرفية لهذه المصطلحات، فهم تيارات مدنية اسماً ولكن عملياً لا تجد أي مقترحات لتطبيق تلك الأفكار بشكل واقعي لدي كل هؤلاء.

في كل دول الغرب التي قطعت شوطاً في تلك الأفكار، لم يتم تطبيق الأفكار المدنية بشكل مجهز سلفاً، ولكن كل مجتمع اخذ من الأفكار المدنية وأنتج نسخته الخاصة، لذا لا عجب ان نرى بعض الاختلافات بين الديموقراطية البريطانية والديموقراطية الامريكية او ما بين التنوير الفرنسي والتنوير الألماني او ما بين العلمانية الإيطالية والعلمانية الاسبانية، او ما بين الاشتراكية السوفيتية والاشتراكية الصينية.

ولكن في مصر لا يوجد حتى اليوم المنظر او المثقف الذي قرر انتاج النسخة المصرية من الأفكار المدنية، حيث طبق المصريين عبر القرن العشرين أسوأ نسخ الاشتراكية والعلمانية والليبرالية والتنوير والعولمة ثم ظننا أنفسنا قد وصلنا الى العالمية بينما في واقع الامر لا يوجد أي تجربة ناجحة عبر التاريخ فيما يتعلق بالأفكار المدنية الا وكانت نابعة من مراعاة الخصوصية الثقافية لكل مجتمع على حده وليس استيراد النماذج الجاهزة من الخارج.

اغلب التيارات المدنية في مصر ورغم مرور ما يفوق الـ 200 عام على بدء الحركة المدنية الحديثة لا تضع أي تعريف او فكرة عامة عن كيفية تنفيذ الأفكار التي تطالب بها، سواء الديموقراطية او العلمانية او التنوير وسابقاً الاشتراكية، دائماً كانت الأفكار تأتي جاهزة من الكتب القادمة بدورها من الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا والاتحاد السوفيتي السابق.

بينما عجزت النخب السياسية والفكرية والثقافية والأكاديمية حتى اليوم على استيعاب فكرة انه لا يوجد دولة مدنية بأفكار مستوردة وانه يجب ان ننتج “نحن المصريين” نسختنا من تلك الأفكار، وانه كما هنالك تنوير فرنسي والماني يجب ان يكون هنالك تنوير مصري يلائم المجتمع المصري وانه كما هنالك علمانية بريطانية وامريكية يجب ان يكون هنالك علمانية مصرية تلائم احتياجات المصريين من هذه الأفكار.

ولكن الصراع الأيديولوجي في مصر يكاد يكون اشبه بحرب بالوكالة بين ايدولوجيات غربية خالصة دون وجود نسخة مصرية، ما بين من حاول تطبيق النموذج الاشتراكي السوفيتي او الصيني في سنوات عبد الناصر، وبين الانفتاح الأمريكي وتالياً علمانية غربية وحتى الأفكار الثورية ذات الطابع المدني في سنوات ما يعرف بالربيع العربي كانت مقتبسة من حركات الشباب في أوروبا وزمن الثورات الملونة دون القدرة على اخذ ما يحتاجه التغيير في مصر ورفض ما لا يحتاجه التغيير في مصر وكانت النتيجة ان ما كان يمكن ان يصبح ثورة شعبية تحول الى مؤامرة إقليمية كادت تدمر اقدم دولة مركزية في التاريخ.

ولهذا السبب اهدرت “اللحظة العلمانية الراهنة” التي تواكب كل ثورة ضد التيارات الدينية، اذ كان يفترض عقب ثورة 30 يونيو 2013 ان نرى تيار مدني مستنير يعمل على ترسيخ رغبة الشعب في التخلص من الإسلام السياسي ولكن مثلما لا يمكن ان تنجح الثورة دون وجود ثوار او تشيد تجربة ديموقراطية دون وجود ديموقراطيين فأنه لا يمكن ابداً ان تجد تيار مدني او علماني او تنويري دون ان يكون هنالك انصار حقيقيين للأفكار المدنية وليس كانتونات للأفكار المدنية، اهدرت فرصة تواجدها على الساحة الايدولوجية سبع سنوات بشكل منفرد دون تقدم يذكر على الأرض.

ان التيار المدني المصري الجديد عقب ثورة 30 يونيو 2013 لا يزال مصاباً بأمراض النخبة المصرية قبل يونيو 2013، لا يزال مكبل بإرث نشطاء يناير وأدوات اليسار القديم والليبرالية التي انحازت للإخوان في انتخابات الرئاسة 2012، لذا فأن التيار المدني المصري بحاجة الى مراجعة شاملة وحقيقية وخلق “المشروع المدني” او حتى “المشروع العلماني” بما يراعي كل ما سبق من سلبيات من اجل ان يمتلك القدرة الحقيقية على تمشيط الشخصية المصرية المعاصرة من مخلفات هيمنة تنظيم الاخوان على الوعي الجمعي المصري لأربع عقود من الزمان ما بين عامي 1974 و2013.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى