طارق الصاوي يكتب : أدب الإختلاف وفن الحوار..ونهضة الاوطان

 

يعد الإختلاف أمرا طبيعيا فى حياة آلناس حيث خلقهم الله تعالى مختلفين فى درجات الوعى والفهم والإدراك كما تختلف ميول آلناس وأهدافهم واتجاهاتهم وثقافاتهم ونظرتهم للحياة.

وبين ربنا تعالي ذلك في سورة هود حيث قال ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)”

وقد امر الله سبحانه عباده المؤمنين ألا يسوقهم ذلك الإختلاف الفطري إلى مراحل الخلاف والبغضاء والشحناء و امرنا ان يسود بيننا حسن المعاملة و أدب الحوار .

حيث يجمعنا هدف واحد يجب أن نرصده جميعا مهما اختلفت أساليبنا وآرائنا ووجهات نظرنا، ألا وهو إرضاء ربنا ثم تحقيق المصالح العامة لحياتنا وأوطاننا.

وجاء أمره تعالى يبين ذلك في سورة آل عمران فى قوله تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ . وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ ” ثم تستمر الايات بنفس السورة، و تظهر عاقبة الإختلاف والتناحر والتباغض من اجل الدنيا الزائلة فيقول ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) .

فحين يتحول الإختلاف إلى خلاف وإنشقاق وتنافس من اجل الدنيا هنالك تتسع مداخل الشيطان لنشر العداوة والبغضاء بين الناس فتتحول الحياة بينهم إلى معركة لا تتوقف ويكون الجميع فيها خاسرون حيث تسقط بينهم الأهداف العامة التي تحقق النفع في بلادهم و مجتمعاتهم وبيئات أعمالهم ومؤسساتهم وعائلاتهم وبيوتهم.

ويسود بينهم سوء الخلق والسباب واللعن ، والسعى الدائم لنصر آرائهم علي بعضهم بعض و إسقاط بعضهم بعض فيسقط الجميع ومعهم المصالح العامة التي تفيد وتنفع المؤسسة او المجتمع أو الوطن بحسب درجة بيئة الإختلاف وحدته.

وقد حذر من ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم فى قوله ” وإذا تسابت أمتى ، سقطت من عين الله ” كناية عن رفع البركة من بينهم وضياع سبل التوفيق والنجاح من بين أيديهم. ونزول سخط الله عليهم.

وإذا أردنا أن نتعلم أدب الإختلاف وفنون الحوار ممن تأدبوا بأدب الإسلام من أسلافنا وأئمتنا الصالحين.
فلتنظر إلى اكثر الناس اختلاف في الآراء والأحكام الإجتهادية الفقهية من أئمة المذاهب.
يقول الشافعى عن أبي حنيفة الذى اختلف معه فى الكثير من الأحكام الفقهية ” كل الناس عيال في الفقه على أبى حنيفة.. ولما ذهب الشافعي إلى مسجد أبي حنيفة بعد موته وصلي الصبح بالناس إماما ترك القنوت الذي يداوم عليه في صلاة الصبح ولما سئل عن السبب قال إحترام لصاحب هذا القبر ، يقصد أبأ حنيفة.

وكان الإمام أحمد بن حنبل والذي إختلف في مذهبه مع الشافعي في الكثير من الأحكام ، وهو في مرض موته إذا ذكر الشافعي تحامل على نفسه وقام من مرقده ، فيقولون له هون عليك يا إمام المسلمين لما تقوم فيقول : إكراما اذكر الشافعى.

وقد إختلف الشافعى في العديد من الأحكام مع أستاذه الإمام مالك ، وقيل ان الإمام مالك سئل يوما عن عن جواز بقر بطن إمرأة ماتت وهى تلد ولا يزال الجنين حيا يتحرك فى أحشائها ، أنخرج الغلام ؟ .قال لا ، فذهبوا سريعا للشافعي فقال أسرعوا واخرجوا الغلام من بطنها ، فاخدوا برأى الشافعي.

ثم سئل مالك في موضع آخر عن حبات قمح بال عليها حمار. فقال هي نجس لا تستخدموه ، فلما ذهبوا للشافعى قال إغسلوه بالماء ثم ابدروه فى الشمس ثم ابذروه أى ازرعوه يخرج منه نباتا طيبا تأكلوه.

وبعد فترة دعي الأمام مالك إلى طعام في بيت من بيوت المدينة ووضع له فطيرة شهية وكان بجواره طفل جميل بالبيت يلعب ويملأ البيت مرحا ، فقالوا له ، ما رأيك في هذا الطعام قال شهي طيب و ما رأيك في هذا الغلام قال جميل مبارك.. فقالوا له هذا الطعام من ناتج القمح الذي حرمته علينا وهذا الطفل هو الجنين الذي اردتنا أن نتركه يموت فى بطن امه بعد موتها.

فلما علم الشافعي ما حدث ترك المدينة و جاء إلى مصر قائلا ” لا يفتى ومالك فى المدينة ” ، وبعدها سأل مالك عن العلم النفيث ، فقال عليكم بالشافعى بن إدريس.. فلما ذهب الخبر إلى الشافعي قال كيف ذلك وفى المدينة مالك.

هكذا كان الإختلاف عند الائمة الأسلاف وهكذا كان فن الحوار بينهم حيث كان هدفهم الأسمى هو إرضاء رب الأرض والسماء ، وتحقيق مصالح ومنافع امتهم و بلادهم ومجتمعاتهم.

ومن اجل ذلك تقدموا وسادوا الدنيا بأسباب بسيطة و وآليات محدودة نصرها الله وبارك لهم فيها.

أما نحن الآن نملك مئات أضعاف ما امتلكوه من الأسباب و القدرات المادية ومع ذلك تخلفنا وامسينا في ذيل الأمم ، علماؤنا يملئون الأرض تقدما و نهوضا ، وتحرم منه بلادنا وأوطاننا لأننا أسأنا أساليب الإختلاف وفقدنا فنون الحوار

وسادت العداوة والبغضاء والسباب واللعان بيننا فسقطنا من عين الله ، ولا يوفق الله امة هان أمره عليها ولا ينصر امة خذلت دينها ، مهما توفرت الأسباب بين يديها.

بقلم : طارق الصاوي المستشار الاعلامي لجمعية الطرق  العربية .

زر الذهاب إلى الأعلى