دين و دنيا

د. حسنى ابو حبيب يكتب : شروط قضية الاستخلاف

قال تعالى “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً” (النور: 55).

قضية الاستخلاف لعباد الله المؤمنين في أرض الله قضية محتومة ، لا شك في تحققها ولا ريب ، لكنها أيضاً قضية مشروطة ، فمن قام بحقها ، وحقق شروطها أصبح خليفة مستخلف في أرض الله ، سواء كان فرداً أو جماعة.

فالاستخلاف في الأرض ، والتمكين للدين ، وحصول الأمن ، كل هذا محقق للمؤمنين متى عبدوا الله تعالى حق عبادته ، فلزموا أمره والتزموا نهيه.

والعبادة ليست شعائر فقط من صلاة وصيام وصدقة وحج بل العبادة تقضي بأن تكون لدى العباد أخلاق فاضلة تضبط معاملاتهم وتصلح حياتهم ، وعقيدة صحيحة تثمر يقيناً كاملاً بأن النافع الضار هو الله وحده ، وأن الرافع الخافض هو الله وحده ، وأن المعطي المانع هو الله وحده ، وان النصر لا يكون إلا من عنده ، وأنه غالب على أمره ، وأن الضر لا يرفع إلا بأمره ، وأن الخير لا ينزل إلا بإذنه ، وأن الملك ملكه يهبه من يشاء ، وان الكون كونه يُصرفه كما يشاء ، فلا يقع فيه إلا ما أراده ، بيده الأمر وهو على كل شيء قدير.

فإن لم تتحقق تلك العبادة من جماعة المؤمنين ، وتحققت من أفرادها ، تحقق لمن تحققت فيه ما وعد الله ، فيكون استخلاف الله لهم استخلاف طاعة ، ويصبح التمكين لدينهم تمكيناً له في قلوبهم ، ويظل شعورهم بالأمن متصلاً لا ينقطع ، لأنه نابع من ثقتهم بربهم ويقينهم فيه ، فلا يفزعون إذا فزع الناس ، ولا يخافون متى خاف الناس ، ويصدق فيهم قوله تعالى: “أولئك لهم الأمن وهم مهتدون” (الأنعام: 82).

هذا وإن كان المؤمن فرداً في عالمه ، فإنه يستخلف ويمكن لدينه في قلبه ويحظى بأمن لا يشعر بمعشاره من تربعوا على عروش أعظم الإمبراطوريات ، وما ذاك إلا لأن ﻭﻋﺪ الله ﻋﺎﻡ ﻓﻲ اﻟﻨﺒﻮﺓ ﻭاﻟﺨﻼﻓﺔ ﻭﺇﻗﺎﻣﺔ اﻟﺪﻋﻮﺓ ﻭﻋﻤﻮﻡ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ، فينفذ وعده ﻓﻲ ﻛﻞ ﺃﺣﺪ ﺑﻘﺪﺭﻩ ﻭﻋﻠﻰ ﺣﺎﻟﻪ. كما قال ابن العربي رحمه الله.

هذا وقد حاول البعض أن يحمل الآية على محمل آخر ، ففسر قوله تعالى: “وليمكنن لهم دينهم…” على أن التمكين للدين لا يكون إلا بالاستيلاء على السلطة أو الحكم حتى وإن كان الدين هشاً في النفوس ، ولا أثر له في أتباعه.

والأمر كما أرى على خلاف ذلك تماماً ، لأنه لو كان كذلك لقال الله تعالى: وليمكنن دينهم.. ، أما وإنه تعالى قال: “وليمكنن لهم دينهم..” فإن التمكين هنا أولى أن يصرف إلى تمكين الدين في قلوب أتباعه اولاً وقبل أي شيء ، فبهذا وحده يصلح العبد أن يكون خليفة لله تعالى ، وبه يستحق الأمن الذي يحظى ويشعر به وإن كان يعيش في بحور متلاطمة من الفتن.

لما حقق ذلك أحد الصالحين استخلف ومكن لدينه في قلبه فصار آمناً حيث حل أو ارتحل حتى كان يقول: “ماذا يفعل بي أعدائي ؟!! إن سجنوني فسجني خلوة ، وإن نفوني فنفيي سياحة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة ، بستاني في صدري”.

هذا عن المؤمنين أما عن الدين الذي هو الإسلام ، فإنه منصور لا شك ، وممكن له لا ريب ، بنا أو بغيرنا ، فقد قضى الله ذلك أزلاً فقال: “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” (التوبة: 33). وأشهد ذاته العلية على ذلك الوعد ، فقال: “…. وكفى بالله شهيداً” (الفتح: 28).

وتأكيداً على هذا قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “ﻟﻴﺒﻠﻐﻦ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻣﺒﻠﻎ اﻟﻠﻴﻞ ﻭاﻟﻨﻬﺎﺭ ، ﻭﻻ ﻳﺘﺮﻙ اﻟﻠﻪ ﺑﻴﺖ ﻣﺪﺭ ﻭﻻ ﻭﺑﺮ ﺇﻻ ﺃﺩﺧﻠﻪ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ ﺑﻌﺰ ﻋﺰﻳﺰ ، ﺃﻭ ﺑﺬﻝ ﺫﻟﻴﻞ ، ﻳﻌﺰ ﺑﻌﺰ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ اﻹﺳﻼﻡ ، ﻭﻳﺬﻝ ﺑﻪ ﻓﻲ اﻟﻜﻔﺮ” (رواه الحاكم في مستدركه).

إذن لا خوف على هذا الدين ، إنما الخوف على من يزعمون أنهم أتباعه ، فقد سبقت كلمته تعالى أن عباده هم المنصورون وأن جنده هم الغالبون ، من أي جنس كانوا ، وفي أي زمان وجدوا ، فهو منصور بهؤلاء أو بأولئك ، فمتى تولى عنه قوم استبدلوا بغيرهم ، “وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم” (محمد: 38).

ما أود قوله أن المؤمن يعمل على إقامة هذا الدين في نفسه أولاً وفيمن يعولهم يربي نفسه ويربيهم على أخلاقه ومبادئه ومثله وقيمه ، فإذا صدق في ذلك وصدقوا استخلفهم الله لطاعته ، ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم في قلوبهم ، ورزقهم أمناً وأماناً لا يشعر به إلا من كان مثلهم ، ثم إذا قام كل مؤمن بذلك وحول الإسلام إلى واقع معاش تحقق الوعد للأمة جميعاً ، فصلاح الأمة مبدأه صلاح الفرد ومنتهاه.

أصلحنا الله وإياكم وأصلح بنا وجعلنا صالحين مصلحين.

زر الذهاب إلى الأعلى