دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب :الفضيلة بالعلم أتمّ من الفضيلة بالفعل

قال تعالى”الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ” [الفاتحة: 3 ، 4].يا سعدنا بربِّنا، ويا هناءنا بحبِّنا إيّاه، ويا فرحنا بوليِّنا، ويا فوزنا لحظة رؤياه، فافرح بربّك أيها العبد واسعد، وبسيّدك هنّي وغنّي، وأقبل عليه ومنه تزود، والزم الجد ودعك عنك التمنّي، فإنَّ مالك يوم الدين رحمن رحيم، قريب ودود، جوّاد كريم، رحمته وسعت كلَّ شيء، “وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء” [الأعراف: 156]، ولشمولها لم يستثن منها شيئاً دون شيء، “رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً” [غافر: 7].

لم يستو على عرشه إلا بصفة رحمته، “الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى” [طه: 5]، ولم يصف نفسه يوم خشوع الأصوات بسواها، “وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ” [طه: 108]، ولا يشفع للسّاكتين يومئذ ليتكلموا إلاها، “لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ” [النبأ: 38]، حتى يوم تشقق السماء بالغمام وتنزل ملائكته لم يضف ملكه الحق إلا لجميل صفته تلك، “وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ” [الفرقان: 25 ، 26].

يا له من إله رحيم، ما غلب غضبه إلا رحمته، وما منع عقابه إلا عفوه، ولا كفَّ أخذه إلا حلمه، وما سبق عذابه إلا مغفرته، فأقبل أيها العبد عليه، وفرّ إليه، فما لك إلاه، ولن يُغيثك سواه، وردّد كل نَفَس يا الله يا الله.

يكفيك أيها العبد أن تعلم هذا عن ربّك ومولاك، حتى وإن قصّرت في عملك فلا تقنط من رحمته ولا تيأس من مغفرته، واجتهد في إقبالك عليه وعملك له على معرفة وعلم، واعلم أنَّ فضيلة العلم أتمُّ من فضيلة الفعل.

إنَّ ربك عندما أراد خلقك وعرض الأمر على ملائكته، أجابت الملائكة بما حكاه عنها: “أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويسفك الدماء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ” فنظروا إلى فعلهم ولم ينظروا إلى علمك، فعرّفهم ربهم أن الفضيلة بالعلم أتمّ من الفضيلة بالفعل، فهم كانوا أكثر فعلاً، أمّا أبوك فقد كان أكثر علماً، فظهرت فضيلته ومرتبته، وعلت على منزلتهم منزلته، لذا قال ربنا لهم: «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» ، أي أعلم من غفرانى لهم ورحمتي بهم ما لا تعلمون.، وأعلم من محبتي إياهم ولطفي بهم ما لا تعلمون، وأنتم تظهرون أحوالكم، وأنا أخفى عليهم أسرارى فيهم.

وأصبح لسان الحال يتمثل قول القائل:

ما حطّك الواشون عن رتبة * عندى ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا -ولم يعلموا- * عليك عندى بالذي عابوا. [انظر لطائف الإشارات للقشيري].

لذا عاش العارفون بربّهم والعالمون بمولاهم عيشة السعداء، ما ضرّهم من خذلهم، وما أذرى بهم من خالفهم، وهم على هذه الحال قائمون إلى يوم الدين ينالون في كل وقت عطاياهم من مالكه، ويغترفون كل حين ما شاءوا من رحمته، فمن رحمة إلى رحمة ينتقلون، ومن نعيم إلى نعيم يرحلون، ومن جنة إلى جنة يُحملون، كان أحدهم يقول: “مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها”، يقصد لذة المعرفة بالله ومتعة الأنس به، ويقول آخر “إنه لتمرّ بى أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة فى مثل ما أنا فيه إنهم لفى عيش طيب”.

فالحلاوة التى يجدها هؤلاء العارفون فى قلوبهم تفوق كلَّ حلاوة، والنعيم الذى يحصل لهم بذلك أتم من كلِّ نعيم، واللذة التى تنالهم بقربهم أعلى من كلِّ لذة، ولا شك أنّ وُجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبَّة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى.

لمّا عرفوا وذاقوا أصبح الفوت عندهم أشدَّ عليهم من الموت؛ لأن الفوت انقطاعهم عن حبيبهم ومولاهم خالق الخلق ، أما الموت فانقطاعهم عمن سواه من الخلق، فكم ما بين الانقطاعين من بُعد؟!!.

قيل لأحدهم يوماً: إنّك ميّت، قال: ثمّ إلى أين؟، قيل: إلى ربِّك، فقال مستبشراً: نعم ما بشرتماني به فما وجدنا الخير إلّا منه، أفنخشى لقاءه ؟!!، واهتز طرباً ولسان حاله يتمثل قول القائل:

فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنهَا * مَنَازِلُكَ الأولَى وَفِيهَا المُخَيّمُ
وَلكِنَّنَا سَبْىُ العَدُوّ فَهَلْ تَرَى * نَعُودُ إلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ.

احتضر منهم شابّ فبكت أمّه عليه، فقال لها: يا أمّاه لو أنّ إليك يكون حسابي، ما كنت فاعلةً بي؟، فأجابت وهي باكية: أرحمك، لا ريب، فأجابها متبسّماً: لَربّي أرحم بي منك!!!.

سأل رجل ابن عبّاس رضي الله عنهما: من يحاسب النّاس يوم القيامة؟ فقال له: الله، لا شك في ذلك، فقال الرّجل: نجونا وربّ الكعبة.

فيا أُخَيَّ أبشر وبشّر بالرحمن الرحيم وحبِّب الناس في مالك يوم الدين، وإيّاك أن تنفّرهم عن ذلك اليوم العظيم ومالكه، واذكر قول نبيك وشفيعك صلى الله عليه وآله وسلم: “بَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا، ويَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا” [صحيح مسلم]. واعلم أنّك بالبشارة مأمور ، وبالتيسير مبعوث، “…فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا معسرين” [صحيح البخاري]. وضع نُصب عينيك قول نبيِّك صلى الله عليه وآله وسلم: “حَبِّبُوا الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَى النَّاسِ، وَحَبِّبُوا النَّاسَ إِلَى الله، يُحْبِبْكُمُ الله” [حلية الأولياء لابن أبي الدنيا]. قال ابن أبي أوفى: “خِيَارُ عِبَادِ الله الَّذِينَ يُحِبُّونَ الله، وَالَّذِينَ يُحَبِّبُونَ الله إِلَى عِبَادِهِ…”، وكان أبو الدرداء يقول: إن شئتم لأقسمن لكم: إن أحب العباد إلى الله الذين يُحبون الله، ويُحبِّبون الله إلى عباده” [المصنف لابن أبي شيبة].

فاللهم إنا نشهدك أننا نحبك ونحب نبيك والصالحين من عبادك، ونحاول جاهدين على أن نحببك إلى عبادك ونُحبب عبادك إليك، فثبتنا يا ربنا على ذلك، واجعلنا من المحبين لك، المُحَبِّبينك إلى عبادك، والمحببين عبادك إليك، واشملنا برحمتك في الدنيا والآخرة، وأسعدنا في الدارين بقربك وودّك يا رحمن يا رحيم يا مالك يوم الدين.

زر الذهاب إلى الأعلى