يوسف عبداللطيف يكتب: الالغاء الجماعي يفضح ما لم يجرؤ احد على قوله

في لحظة سياسية مربكة تداخلت فيها الوقائع بالشكوك تعود قضية نزاهة الاستحقاقات التشريعية إلى الواجهة من جديد وسط موجة قرارات بإلغاء دوائر كاملة وطرح تساؤلات عميقة حول ما يكمن خلف هذا المشهد الاستثنائي.
تمثل انتخابات مجلس النواب بالنسبة لي اكثر من مجرد سباق سياسي كل خمس سنوات فهي مرآة صافية تكشف مستوى النضج المجتمعي وقدرة الدولة على صناعة مسار ديمقراطي يحترم صوت المواطن ويحمي اختياره مهما اشتدت الضغوط او تبدلت الظروف لكن حين اجد نفسي امام سيل من قرارات الالغاء الكلي في دوائر تمتد من الجيزة الى الفيوم ومن اسيوط الى سوهاج ومن قنا الى الاسكندرية والبحيرة يصبح السؤال الحتمي كيف وصلنا الى هذه النقطة ولماذا صار المشهد اقرب الى كشف حساب قاس لسنوات طويلة من التجاذبات والاخطاء المتراكمة؟
انتخابات مجلس النواب ليست مجرد كلمة طنانة تتردد في وسائل الاعلام بل هي حجر زاوية في مستقبل بلد يحاول اعادة بناء ثقته في نفسه وفي مؤسساته ومع ذلك نجد ان بعض الدوائر تتحول الى ساحات ارتباك قانوني وسياسي ينتهي بقرارات حاسمة مثل الغاء التصويت بالكامل ما يعني ان هناك خللا جوهريا لا يمكن تجاهله او التخفيف من وطأته على الوعي العام.
انتخابات مجلس النواب التي يفترض ان تكون مسرحا للتنافس بين الرؤى والبرامج تحولت في بعض المناطق الى اختبار عسير بين رغبة المجتمع في اختيار ممثليه وبين قدرة المنظومة على حماية هذا الحق في ظل اتهامات تتعلق بالمال السياسي وضغوط اجتماعية وصراعات محلية ضيقة وكلها عوامل صنعت مناخا مرتبكا انعكس مباشرة في قرار الالغاء الذي طال دوائر عديدة من امبابة الى دمنهور ومن ابو حمص الى ايتاي البارود مرورا باخميم وطهطا والمراغة وجرجا والمنشاة والسلام.
انتخابات مجلس النواب هنا لا تعكس مجرد ازمة ادارية عابرة بل تكشف عن حاجة ملحة لاعادة النظر في البنية الاخلاقية والسياسية التي تتحرك داخلها المنافسة التشريعية فمن غير المقبول ان تتحول المشاركة الشعبية الى معركة نفوذ مالي او الى صفقات موسمية تستغل احتياجات الناس او الى صراع قبلي يتجاهل فكرة المواطنة ويهدم اساس العدالة الانتخابية.
ولانني ابن هذا البلد قبل ان اكون كاتبا اشعر ان ما جرى يمثل رسالة انذار لا يمكن تجاهلها فالدوائر التي تم الغاؤها ليست مجرد ارقام في تقرير رسمي بل هي مجتمعات كاملة حرمها العبث الانتخابي من حقها في ان تسمع صوتها داخل البرلمان كما ان هذا الالغاء لا يطعن في ارادة المواطن بقدر ما يطعن في قدرة المنظومة على تأمين العملية الانتخابية من المال الفاسد ومن الضغوط التي تحول الناخب من صاحب قرار الى هدف يسهل التأثير عليه.
المشهد اذا ليس مجرد قائمة الالغاء التي طالت وامبابة بالجيزة وبندر الفيوم وابشواي والفتح باسيوط و7 دوائر في سوهاج وجميع دوائر محافظة قنا باكلمها والرمل بالاسكندرية ودمنهور وأبوحمص وايتاي البارود بل هو انعكاس لسؤال اكبر هل يمكن ان نصل الى مرحلة تصبح فيها العملية الانتخابية محمية بما يكفي من العبث والتجاوزات بحيث لا يحتاج القضاء الى الغاء دوائر باكملها هل يمكن ان نرى يوما منافسة تقوم على الفكر لا على النفوذ وعلى البرامج لا على الوعود وعلى الكفاءة لا على الشللية
اعرف جيدا ان الحديث عن النزاهة في انتخابات مجلس النواب ليس مهمة سهلة فالواقع اشد تعقيدا من الشعارات واصعب من التنظير السياسي لكنني اؤمن ان هذا البلد قادر على التعلم من اخطائه وقادر على تحويل قرارات الالغاء من صدمة عامة الى لحظة مراجعة صادقة لان الالغاء ليس هزيمة بل اعتراف رسمي بان ما حدث لم يعبر عن ارادة الشعب الحقيقية وهو امر في حد ذاته خطوة اولى نحو اصلاح اعمق واشمل
لقد عشنا زمنا كانت فيه بعض الممارسات الانتخابية تجري في الظل دون رادع في حين تأتي قرارات اليوم لتقول بوضوح ان الدولة لن تتسامح مع العبث وان القضاء لن يتردد في اتخاذ ما يلزم لحماية المشروعية حتى لو كان الثمن اعادة العملية من جديد هذا التوجه يجب ان يستمر لانه الطريق الوحيد لاعادة بناء ثقة المواطن في الانتخابات وفي نوابه وفي فكرة البرلمان نفسها
وانا حين اكتب هذا المقال لا اتحدث بلغة مثالية ولا احاول ان ارسم صورة وردية لما هو مرير بل اكتب بواقعية محملة بامل عنيد امل يقول ان البلد الذي استطاع ان ينهض من ازمات اعظم قادر ان يصحح مساره السياسي مهما طال الطريق ومهما تعددت الاخطاء فنحن امام لحظة فاصلة لا يجوز ان تمر مرور العابرين بل يجب ان تتحول الى نقطة انطلاق نحو انتخابات تنتصر فيها ارادة الناس لا ارادة المال
انا لا اريد لانتخابات مجلس النواب ان تتحول الى ما يشبه نتيجة ثانوية عامة بعنوان لم ينجح احد ولا اريد لدائرة كاملة ان تدفع ثمن اخطاء مرشح او نفوذ جماعة او عبث مستغلين بل اريد ان يتحرك هذا البلد نحو مرحلة جديدة يفوز فيها من يستحق ويخسر من لم يقدم للناس ما يقنعهم ويستعيد فيها المواطن ايمانه بان صوته ليس سلعة تباع وتشترى بل حق اصيل لا يملك احد ان ينتزعه
ان ما جرى ليس نهاية الطريق بل بدايته البداية التي يجب ان نعيد فيها تعريف معنى المشاركة ومعنى المسؤولية ومعنى الامل ومعنى الوطن الذي يستحق منا اكثر مما نقدمه في لحظات الهزل السياسي او الاستسهال الانتخابي نحن امام فرصة تاريخية لاعادة رسم الخريطة السياسية على اسس نظيفة وواضحة والكرة الان في ملعبنا نحن الناخبين قبل اي شخص اخر








