د.فتحي حسين يكتب: وزير التعليم العالي و تطوير خدمة المجتمع

في زمن تختلط فيه الأصوات، ويعلو فيه الصخب على الفعل، يقدّم الدكتور محمد أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمي نموذجا لمسؤول يفهم أن المعرفة سلطة من نوع خاص، وأن الاستثمار الحقيقي ليس في الحجر وحده، بل في العقل الذي يفكر، واليد التي تطبق، والجامعة التي تعرف لماذا وُجدت.!
يمكن الاقتراب من تجربة الدكتور أيمن عاشور ، لا بوصفه موظفا عاما يؤدي مهام منصبه، وإنما باعتباره فاعلًا في معركة الوعي والتنمية، وفي واحدة من أكثر الجبهات حساسية: جبهة التعليم والبحث العلمي.
منذ سنوات طويلة، والتعليم العالي في مصر يدور في حلقة مفرغة؛ جامعات تخرج أعدادا ضخمة من الطلاب، وبحث علمي يتراكم في مكتبات المؤتمرات والدوريات، وسوق عمل يئن من فجوة هائلة بين ما يدرس وما يطلب. هذه الفجوة لم تكن تقنية فقط، بل كانت فجوة رؤية. ومن هنا، يمكن فهم مشروع الدكتور أيمن عاشور بوصفه محاولة جادة لردم هذه الهوة، لا عبر القرارات الفوقية وحدها، بل من خلال إعادة تعريف دور الجامعة نفسها.
الرجل جاء من خلفية هندسية ومعمارية، وهي خلفية لا تنتج شعارات، بل تنتج تصميما. والمعمار، بطبيعته، لا يفكر في اللحظة، بل في العمر الافتراضي للمبنى، وفي علاقته بالمكان والإنسان. وربما لهذا السبب، لم ينظر وزير التعليم العالي إلى الجامعة باعتبارها مبنى أو شهادة، بل باعتبارها نظامًا متكاملًا لإنتاج المعرفة وتدويرها داخل المجتمع.
أحد المفاتيح الكبرى في هذه التجربة هو الإصرار على تحويل البحث العلمي إلى قوة اقتصادية واجتماعية. فالبحث، في فلسفة الدكتور أيمن عاشور، ليس ترفا أكاديميا ولا سباقا للنشر فقط، بل أداة لحل المشكلات، وتحسين جودة الحياة، وخلق فرص عمل. ومن هنا جاء التركيز على ربط الجامعات بالصناعة، وتشجيع الابتكار، ودعم حاضنات الأعمال، والتوسع في مسارات التعليم التطبيقي، بما يعيد الاعتبار لفكرة “العلم النافع”.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل التحول الجذري في خريطة الجامعات المصرية خلال عهده. فالدولة، بقيادته لملف التعليم العالي، انتقلت من منطق المركز الواحد إلى منطق التعدد والتنوع. جامعات حكومية جديدة، وجامعات أهلية، وخاصة، وتكنولوجية، ليصل العدد الإجمالي إلى ما يقرب من 148 جامعة. وهذا الرقم، في ذاته، لا يعني شيئا إن لم يُقرأ في سياقه الأوسع: سياق إتاحة التعليم، وتخفيف الضغط عن الجامعات التقليدية، وخلق مسارات تعليمية مختلفة تناسب تنوع القدرات والطموحات.
غير أن التوسع الكمي لم يكن هو الهدف النهائي، بل إعادة صياغة الفلسفة التعليمية. فالجامعات التكنولوجية، على سبيل المثال، ليست مجرد إضافة عددية، بل تعبير عن اعتراف متأخر بأهمية التعليم الفني والتطبيقي، وبأن التنمية لا تُبنى فقط بخريجي الكليات النظرية، وإنما بسواعد تعرف كيف تفكر وتُنتج في آن واحد.
ومن يراقب أداء الدكتور أيمن عاشور، يلحظ سمة نادرة في العمل العام: الهدوء. لا يظهر الرجل كثيرا في المشهد الإعلامي، ولا يبالغ في تقديم نفسه، وكأنه يؤمن بأن الإنجاز الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج. هذا الهدوء ليس ضعفا، بل ثقة في المسار، وإيمان بأن العمل المؤسسي أطول عمرا من العناوين العاجلة.
وربما يعود هذا الطابع الهادئ إلى تكوينه الشخصي والمهني؛ فهو أحد المهندسين المعماريين القلائل على المستوى العالمي الذين جمعوا بين الأكاديمية والممارسة، وشاركوا في مشروعات كبرى، على رأسها التصميم الهندسي للعاصمة الإدارية الجديدة. والعاصمة، هنا، ليست مجرد مدينة، بل رمز لرؤية الدولة في الانتقال من العشوائية إلى التخطيط، ومن رد الفعل إلى الفعل الاستباقي. وهي الرؤية نفسها التي يحاول نقلها إلى التعليم العالي.
وعلى الصعيد الدولي، لم تكن تجربة الدكتور أيمن عاشور منعزلة عن العالم. فقد حقق إنجازات متعددة في إطار تعامله مع منظمة اليونسكو، وأسهم في تعزيز الحضور المصري في ملفات التعليم والثقافة والبحث العلمي. وهو حضور لا يقوم على المجاملة الدبلوماسية، بل على الكفاءة والخبرة، وعلى تقديم نموذج مصري قادر على التفاعل مع المعايير العالمية دون التفريط في الخصوصية الوطنية.
في العمق، نحن أمام تجربة تطرح سؤالا أكبر: هل يمكن للتعليم أن يقود التنمية فعلًا؟ وتجربة وزير التعليم العالي تقول إن ذلك ممكن، بشرط أن نكسر الحواجز الوهمية بين الجامعة والمصنع، بين المدرج والشارع، بين النظرية والحياة. وهي معركة ليست سهلة، لأنها تصطدم بتراكمات طويلة من الجمود الإداري، والمقاومة الصامتة للتغيير.
لكن ما يميز هذه التجربة أنها لا تدار بمنطق الصدام، بل بمنطق التراكم الهادئ. خطوة هنا، وإصلاح هناك، وتوسيع دائرة الشراكة مع المجتمع، حتى يتحول التعليم العالي تدريجيًا من عبء على الدولة إلى رافعة من روافعها الأساسية.
هكذا تقاس التجارب الجادة: لا بعدد التصريحات، بل بعمق الأثر… ولا بسرعة النتائج، بل بقدرتها على الاستمرار..فتحية تقدير لوزير يقدس العمل العام وينجز بلا ضجيج وفي صمت وهدوء وحكمة الفرسان .








