دين و دنيا

د . حسنى ابوحبيب يكتب: المثبطون

تاريخنا والمثبطين: لا شك أن جميع عقلاء الدنيا يتفقون على أنه لا شيء أخطر على أي أمة من مثبطيها ومرجفيها وما ذاك إلا لأن هؤلاء لا يعملون ولا يدعون غيرهم يعمل ، وفي الناس سمّاعون لهم ومعجبون بقولهم ، قال تعالى: “ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام” (البقرة: ٢٠٤). وقال سبحانه بعد أن ذكر أمر هؤلاء المثبطين والمنافقين: “وفيكم سمّاعون لهم.” (التوبة: ٤٧).

لذا أصبح من أوجب الواجبات وآكد الفرائض التصدي لهؤلاء وأولئك دفاعاً عن ديننا ودنيانا فإذا كان الدين قديما سياجنا الذي نحتمي وندافع به عن مصالحنا في الدارين ، فوالله لقد أصبح في هذا الزمان الذي نعيشه كهف بقائنا الذي لا بقاء لنا بدونه.

والمطالع لتاريخنا الإسلامي فضلاً عن المتمعن فيه يجد أن هؤلاء المثبطين لا ينفكون عنه وما خلا منهم عصر ولا افتقدتهم مرحلة بل هم ملازمون له لزوم الشوك للورد ولزوم الفرث للدم وما هذا إلا لحكمة أرادها الله ظهرت لمن ظهرت له وخفيت عمن خفيت عليه ، لكن المتدبر للقرآن الكريم والفاقه للسنة النبوية المشرفة يظهر له جوانب كثيرة من هذه الحكمة ، منها:

ليميز الله الخبيث من الطيب.

ليُعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.

ليُعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك.

ليُعلم المجاهد الصابر من المنافق الجازع.

ليُمكن الله تعالى لعباده في الأرض.

قيل للإمام الشافعي أيهما أفضل للرجل أن يمكن له أو يبتلى. قال: وهل يمكن له إلا بعد الابتلاء.

إلى غير هذا من الحكم التي لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم.

أما عن تاريخ ظهور هؤلاء المثبطين فظهورهم في هذه الأمة منذ ظهور الدعوة لهذا الدين ، ولكم عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، لكنه كان لا يعبأ بهم أو يعيرهم انتباهاً ، وكان يُفشل مخططاتهم ببث الأمل في نفوس أصحابه على الدوام حتي في أحلك الأوقات.

لذا فإن المتأمل للأحاديث المبشرات بالنصر والتمكين التي قالها رسولنا الكريم يجد عجباً ، يجدها كلها قيلت في أشد الأزمات وأصعب الأوقات.

انظر إليه صلى الله عليه وسلم عقب موقعة أحد التي لاقى فيها ما لاقى حتى كاد أن يستشهد فيها ، بعد الموقعة طلب من أصحابه ليصطفوا خلفه حتي يثني على ربه ويمدحه ويشكره.

ﺭﻭﻯالحاكم في مستدركه عن اﻹﻣﺎﻡ أحمد: “ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻮﻡ ﺃﺣﺪ ﻭاﻧﻜﻔﺄ اﻟﻤﺸﺮﻛﻮﻥ، ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: اﺳﺘﻮﻭا ﺣﺘﻰ ﺃﺛﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﺭﺑﻲ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ، ﻓﺼﺎﺭﻭا ﺧﻠﻔﻪ ﺻﻔﻮﻓﺎ، ﻓﻘﺎﻝ: اﻟﻠﻬﻢ ﻟﻚ اﻟﺤﻤﺪ ﻛﻠﻪ، اﻟﻠﻬﻢ ﻻ ﻗﺎﺑﺾ ﻟﻤﺎ ﺑﺴﻄﺖ، ﻭﻻ ﺑﺎﺳﻂ ﻟﻤﺎ ﻗﺒﻀﺖ، ﻭﻻ ﻫﺎﺩﻱ ﻟﻤﻦ ﺃﺿﻠﻠﺖ، ﻭﻻ ﻣﻀﻞ ﻟﻤﻦ ﻫﺪﻳﺖ، ﻭﻻ ﻣﻌﻄﻲ ﻟﻤﺎ ﻣﻨﻌﺖ، ﻭﻻ ﻣﺎﻧﻊ ﻟﻤﺎ ﺃﻋﻄﻴﺖ ﻭﻻ ﻣﻘﺮﺏ ﻟﻤﺎ ﺑﺎﻋﺪﺕ، ﻭﻻ ﻣﺒﻌﺪ ﻟﻤﺎ ﻗﺮﺑﺖ. اﻟﻠﻬﻢ: اﺑﺴﻂ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻣﻦ ﺑﺮﻛﺎﺗﻚ ﻭﺭﺣﻤﺘﻚ ﻭﻓﻀﻠﻚ ﻭﺭﺯﻗﻚ. اﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧﻲ ﺃﺳﺄﻟﻚ اﻟﻨﻌﻴﻢ اﻟﻤﻘﻴﻢ، اﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﺤﻮﻝ ﻭﻻ ﻳﺰﻭﻝ. اﻟﻠﻬﻢ: ﺇﻧﻲ ﺃﺳﺄﻟﻚ اﻟﻌﻮﻥ ﻳﻮﻡ العيلة، ﻭاﻷﻣﻦ ﻳﻮﻡ اﻟﺨﻮﻑ. اﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧﻲ ﻋﺎﺋﺬ ﺑﻚ ﻣﻦ ﺷﺮ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﻴﺘﻨﺎ ﻭﺷﺮ ﻣﺎ ﻣﻨﻌﺘﻨﺎ. اﻟﻠﻬﻢ ﺣﺒﺐ ﺇﻟﻴﻨﺎ اﻹﻳﻤﺎﻥ ﻭﺯﻳﻨﻪ ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ، ﻭﻛﺮﻩ ﺇﻟﻴﻨﺎ اﻟﻜﻔﺮ ﻭاﻟﻔﺴﻮﻕ ﻭاﻟﻌﺼﻴﺎﻥ، ﻭاﺟﻌﻠﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﺮاﺷﺪﻳﻦ. اﻟﻠﻬﻢ ﺗﻮﻓﻨﺎ ﻣﺴﻠﻤﻴﻦ ﻭﺃﺣﻴﻨﺎ ﻣﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻭﺃﻟﺤﻘﻨﺎ ﺑﺎﻟﺼﺎﻟﺤﻴﻦ ﻏﻴﺮ ﺧﺰاﻳﺎ ﻭﻻ ﻣﻔﺘﻮﻧﻴﻦ، اﻟﻠﻬﻢ ﻗﺎﺗﻞ اﻟﻜﻔﺮﺓ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻜﺬﺑﻮﻥ ﺭﺳﻠﻚ، ﻭﻳﺼﺪﻭﻥ ﻋﻦ ﺳﺒﻴﻠﻚ، ﻭاﺟﻌﻞ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺭﺟﺰﻙ وعذابك إله الحق”.

هكذا فعل أيضا يوم الأحزاب وهو لا شك من أشد الأيام على المسلمين إذ جاؤوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وبلغت قلوبهم حناجرهم حتى ظنّ بعضهم بالله الظنون ، بينما هم كذلك إذ اجتهدوا في حفر الخندق ولما اعترضتهم صخرة دعوا رسول الله لها فضربها ضربة فخرج منها شرز فكبر وبشرهم بفتح العراق ، ثم ضرب الثانية فخرج منها شرز فكبر وبشرهم بفتح الشام ، ثم ضرب الثالثة فخرج منها شرز فكبر وبشرهم بفتح اليمن ومصر.

حتى قال أحد هؤلاء المثبطين المنافقين: يعدنا محمد ويبشرنا بفتح العراق والشام واليمن ومصر ولا يأمن أحدنا أن يذهب إلى خلائه فردا.

ثم يمضي التاريخ بهذه الأمة إلى عصر الخلفاء الراشدين وعصر الدولة الأموية ثم العباسية ثم مرورا بالعصور الوسطي إلى العصر الحديث ومنه للتاريخ المعاصر وفي كل تلك العصور نجد هؤلاء المثبطين يقوون تارة ويضعفون أخرى ومن الثابت أنهم لا يقوون إلا في ظل غياب الوعي، وحضور الجهل بالدين.

ولما كانت الأمة -ومنها بالطبع وطننا مصر- قد مرت بأزمنة جَمُد فيها فكرها وغاب عنها وعيها وتقطعت أرضها بل تمزقت أشلاؤها وما ذلك إلا بسبب أعاجم سطو على حكمها وأغلقوا أبواب الاجتهاد في وجهها فأصبحت تدور في قوالب قديمة لم تُفصَّل لها ولم تصنع على مقاسها بل فُصلت وصنعت لأقوام زمانهم غير زمانها ومقاسهم مخالف لمقاسها حتى خرج علينا في تلك الأزمنة من يحرم لبس وأكل من لم يحرم الله على العالمين لبسه أو أكله ، وماذلك إلا لعلة أنهم كانوا في قوالبهم القديمة لا يلبسونه أو لا يأكلونه. ويا ليتهم اكتفوا بذلك بل عطلوا نصف المجتمع وحبسوه بالبيوت وأصبحنا نسمع ولأول مرة مصطلح الحرمل

زر الذهاب إلى الأعلى