آراء

شعبان شحاتة رئيس القلم الشرعى بمحكمة العدوة يكتب : فطنة القاضى وذكاء المدعى

روي أن معاوية بن قرة شهد عند ابنه إياس مع رجال عدول على رجل بأربعة آلاف درهم،فقال المشهود عليه : يا أبا واثلة تثبت في أمري، فوالله ما أشهدتهم إلا على الفين، فسأل أباه والشهود : أكان في الصحيفة التي شهدتم عليها فضل؟ قالوا: نعم، كان الكتاب في أولها والطية في وسطها، وباقي الصحيفة أبيض، قال: أفكان المشهود له يلقاكم أحياناً فيذكركم شهادتكم بأربعة آلاف درهم؟ قالوا: نعم، كان لا يزال يلقانا فيقول: أذكروا شهادتكم على فلان بأربعة آلاف درهم ، ـ فصرفهم ودعا المشهود له فقال: يا عدو الله تغفلت قوماً صالحين مغفلين فأشهدتهم على صحيفة جعلت طيتها في وسطها وتركت فيها بياضاً في أسفلها. فلما ختموا الطية قطعت الكتاب الذي فيه حقك ألفا درهم وكتبت في البياض
أربعة، فصارت الطية في آخر الكتاب، ثم كنت تلقاهم فتلقنهم وتذكرهم أنها أربعة آلاف، فأقر بذلك وسأله الستر فحكم له بألفين وستر عليه اهـ .

تحليل القضية :أربعة آلاف درهم ،تنحصر القضية في مطالبة شخص لآخر بمبلغ يدعي به عليه وقدره وله ورقة بذلك وشهود أيضاً شهدوا على صحة ما ورد فيها والمدعى عليه لا يقر بسوى ألفي درهم فقط. إلى هنا وجانب المدعى قوي لا غبار عليه، وكاد القاضي إياس أن يحكم له لثبوت حقه ـ ولاحظ ذلك المدعى عليه ـ فقال : يا أبا واثلة تثبت في أمري فوالله ما أشهدتهم إلا على ألفين، الأمر الذي جعل القاضي إياس يتريث ويجتهد في زيادة التحري براءة للذمة، فتفرس في الأمر فظهر له أن فيه ما يدعو إلى صحة ما ذكره المدعى عليه . وهنا لا بد من إثبات صحة ما تفرس فيه والتوصل
إلى إظهار الحق جلياً على لسان المدعي ـ الذي أصبح في نفس الوقت مدعى عليه ـ فما هو الطريق إلى ذلك؟ .
.
سأل والده وبقية الشهود: أكان في الصحيفة التي شهدوا عليها فضل -؟ ـ وهو سؤال إن دل على شيء فهو يدل على منتهى الذكاء وفطنة السائل ـ وهو مفتاح حل غموض القضية، وتأتي الإجابة بنعم، كان الكتاب في أولها والطية ـ أي الختم ـ في وسطها. وباقي الصحيفة أبيض .

وإلى هنا انحل نصف غموض القضية وزيادة في التحري لا بد من الكشف عن بقية غموضها والسبب الذي جعل المدعي يترك هذا البياض، هل تركه لشيء في نفسه أم لا؟. وهنا يأتي السؤال الآخر: هل كان المشهود له ـ أي المدعي – يلقاكم أحياناً فيذكركم شهادتكم بأربعة آلاف درهم؟ وتأتي الإجابة بنعم، وأكدوا ذلك بقولهم : كان لا يزال يلقـانا فيقول: اذكروا شهادتكم على فلان بأربعة آلاف درهم . السؤال في منتهى الذكاء والفطنة، المدعي يترك بياضاً من منتصف الصحيفة . وأشهد على ما كتب في الصحيفة، ثم يأتي بعد مدة فيذكرهم بشهادتهم ويقول: اذكروا شهادتكم على فلان بأربعة آلاف درهم
.
ماذا يريد بتذكيرهم هذا ما دام أن له ورقة بحقه وقد شهدوا على مضمونها؟. إنه الاحتيال بذاته، استغل صلاح الشهود وطيبهم وغفلتهم فكلما مر عليهم قال لهم عبارته تلك، ولم ينتبهوا إلى احتياله هذا، ومجريات القضية تدل على وجود فترة لا بأس بها استغلها المدعي للتضليل على الشهود .
كل هذا توصل إليه القاضي إياس بما وهبه الله تعالى من فراسة صادقة وإلى هنا والأمر لا يكفي للحكم بصحة ما توصل إليه ولا بد من إظهار الحق جلياً على لسان المنكر، ومن ثم فلا بد من الحزم ومواجهة المنكر بحيث لا يجعل له مجالا للمراوغة لا سيما وأنه أمام شخص محتال
فماذا فعل؟

صرف الشهود، ودعا المشهود له وواجهه مواجهة قوية حاسمة بقوله له: يا عدو الله تغفلت قوماً صالحين مغفلين فأشهدتهم على صحيفة جعلت طيتها في وسطها وتركت فيها بياضاً في أسفلها فلما ختموا الطية قطعت الكتاب الذي فيه حقك ألفا درهم وكتبت في البياض أربعة فصارت الطية في آخر الكتاب ثم كنت تلقاهم فتلقنهم وتذكرهم أنها أربعة آلاف معه فواجهه بصفة احتياله الذي أقدم عليه وكأنه كان حاضراً أمر ليس بالهين على إنسان ذكي استغل ذكاءه في غير ما أحل الله تعالى له، وأحكم الخطة بحيث لا يمكن انكشاف أمره، ثم يواجه دفعة واحدة بمن يفضحه ويذكر له صفة احتياله مرحلة مرحلة مما لا يجعل له مجالاً للمراوغة والانكار، فأقر واعترف بذلك وطلب الستر فحكم له إياس بما أقر به وأقر له خصمه سابقاً

زر الذهاب إلى الأعلى